من مراسلات (فرويد- أينشتاين)
تبقى الحرب الدليل العلميّ الدامغ على أنّ الحياة البشريّة ليست سوى غابة، مهما حاول الطوباويّون أن يغيّروا وجهها بغرائزهم الفريدة. وماتزال الحرب العالميّة الأولى النموذج الأكثر قسوة وإلهاماً في الوقت ذاته، رغم سلسلة الحروب التي نعيش في خضمّها، وقد يعود ذلك إلى كونها المواجهة الشاملة الأولى للبشريّة مع رعب الزوال بأسلحة فعليّة فتّاكة، وإلى أنّها غيّرت تاريخ العالم وتحالفاته، ورسمت هويّات جديدة للشعوب، فأزالت إمبراطوريّات، وأهّلت لنشوء قوى وإزاحة أخرى، وأنتجت الحروب الأخرى التي أعقبتها، ولم يكفّ فيها البشر الاستثنائيّون عن التفكير، فقد أثبتوا خلالها تماسكهم، وأعلنوا أفكارهم النبيلة المناهضة للقتل، ولم يسمح لهم تقدير الذات والإخلاص للمنظومة القيميّة أن يتخلّوا عن أدوارهم التاريخيّة.
في العام 1915 أطلق عالم التحليل النفسيّ سيغموند فرويد بحثه المؤثّر عن الحرب، يفسّر فيه هذا الاختلال الكونيّ وفاقاً لنظريّته الشهيرة حول صراع القوّتين الرئيستين اللتين تسيّران الجنس البشريّ: قوّة الحياة وقوّة الموت، أو قوّة التناسل، وقوّة التدمير. يتحدّث فرويد في أوراقه تلك عن التكيّف الثقافيّ الذي يساوي تحوّلات الغرائز، حيث يتجلّى في الحرب الذهن البدائيّ للأفراد والجماعات، والذي لا يقبل الزوال، مهما بدوا متحضّرين قبل الحرب، فالذهن البدائيّ ينتصر لغريزة الوجود، التي تُقدم في لحظة الذروة على قتل الآخر، وتصير الحجج المنطقيّة عاجزة عن مواجهة المصالح الفعّالة، لذا تعلو نداءات المواجهة والقتل الانفعاليّة على نداءات السلام التي تتهم بالسلبيّة والخنوع، حتّى من قبل المتحضّرين أو المثقّفين، الذين يسمهم الناس بالذكاء، ذلك أنّ الذكاء ليس قوّة مستقلّة، بل يعتمد على الحياة الانفعاليّة. لكنّ هؤلاء الذين أصابهم الخبل كما يقول فرويد سيعودون إلى رشدهم بعد نهاية الحرب، وطبعاً بعد أن يساهموا مساهمة فاعلة في الخراب: "إنّ مظاهر الخبل التي دفعت هذه الحرب أبناءَ وطننا إليها، ومنهم كثيرون من أفضل بني جنسهم، هي من ثمّ ظاهرة ثانويّة، هي نتيجة لإثارة انفعاليّة، ومقدّر لها فيما نأمل أن تختفي مع نهاية الحرب".
في حين لا يستسلم الفكر لهذه الظواهر الانفعاليّة ولا لرغبات البشر التدميريّة المريضة، إذ يتابع المفكّرون عملهم، كلّ في حقله، وبأدواته، من غير قرصنات دنيئة، ففي العام 1932 أطلق كلّ من فرويد وأينشتاين مراسلاتهما لحماية البشريّة من لعنة الحرب، كما اتفقا على تلك التسمية، وأعتقد أنّ أهميّة هذه المراسلات تكمن في كونها رسمت خريطة عالم ما بعد الحداثة الذي نعيشه اليوم، وذلك للذين يهتمّون بجوهر هذا الصراع، لا للذين يظنّون أنّهم يعيشون ظاهرة طارئة يمكن لشلّة منتفعة من مثل الـ "بلاك ووتر" أن تخلقها.
يفسّر فرويد لأينشتاين رؤيته للحرب وعقابيلها، عبر تحليلات في منتهى الخطورة والوضوح: "إنّ صراعات المصالح بين الناس تسوّى باستخدام العنف، وهذا صحيح بالنسبة للمملكة الحيوانيّة بأسرها، وهي المملكة التي لايملك الناس استبعاد أنفسهم منها"، و"إنّ الحقّ هو قوّة جماعة، والانتقال من العنف إلى الحقّ أو العدل الجديد، يشترط تحقّق شرط سيكولوجيّ واحد هو أن يكون اتحاد الأغلبيّة مستقرّاً وثابتاً".
تبدأ هذه المراسلات من فيننا، حيث يفتتح فرويد رسالته الأولى بـ: "عزيزي بروفيسور أينشتاين"!
إنّها خطابات في منتهى الرقيّ الذي تفرضه أخلاقيّات العلم حتّى في زمن الحرب، وهما رغم اختلافهما على مسائل عدّة، وتناولهما القضايا من منطلقات متباينة، يفرضها التباين بين علم الطبيعة وعلم النفس، اتفقا على أنّ الحرب لعنة، وأنّ واجبهما المقدّس هو تخليص البشريّة منها.
يشير فرويد في رسالته إلى دور المفكّرين والمثقّفين في الصراعات، دورهم المقترن بقوّة الحياة ضدّ قوّة الموت، فيؤكّد على أنّهم يجب أن يستعيضوا عن القوّة الفعليّة بقوّة الأفكار، وإنّ كلّ ما يدعم نموّ الثقافة يفعل في الوقت نفسه ضدّ الحرب، وبعد أن يفسّر لمخاطبه الدوافع الغريزيّة للحرب، يستثني نفسه وصاحبه وأهل الفكر الأصلاء من الخضوع لتلك الغريزة: "نحن المسالمون نملك رفضاً أساسيّاً للحرب، حساسيّة مضخّمة، فالمستويات الجماليّة الأدنى في الحرب، تلعب في تمرّدنا عليها دوراً أصغر بكثير من الدور الذي تلعبه فظاعاتها!"، وما ذلك إلاّ لأنّهما يكترثان بالآخرين، لا بمصالحهما ومكتسباتهما.
سؤال أخير يطرحه فرويد، ويجيب عليه من حيث يعرف تماماً الفروقات بين الإنسان والحيوان:
"لماذا لا نقبل الحرب مع أنّها شيء طبيعيّ لصراع الغريزة التدميريّة مع الإيروسيّة؟: لأنّ الحرب تضع نهاية للأرواح التي يملؤها الأمل، لأنّها تدفع بالبشر الأفراد إلى مواقف مذلّة، لأنّها تجبرهم – رغم إرادتهم- على أن يقتلوا بشراً آخرين، ولأنّها تدمّر أشياء عاديّة (قديمة) ثمينة أنتجتها الإنسانيّة،.. الحرب لم تعد فرصة لتحقيق المثل العليا القديمة للبطولة!".
فلنستذكر معاً صياح بعض من حولنا واستجاباتهم لحروبنا الدائرة، وشتائمهم، وخطاباتهم، أليست مثل مشهد مشجّعي صراع الديكة، في مدينة رومانيّة، مخمورين، مأخوذين بالعنف، وبرغبات انفعاليّة على حدّ قول فرويد، وذلك رغم ذكائهم الذي تبدّى في مواسم ما قبل الحرب. لقد أدركتني فداحات كثيرة ملموسة للحروب، لكنّني لم أواجه قبحها الكامل إلاّ حينما فقدت صديقتي المحاصرة في مكان ما بسبب الحرب طفليها اللّذين ماتا أمس من الجوع.
د. شهلا العجيلي: كاتبة، وروائيّة، وأستاذة الأدب العربيّ الحديث في الجامعة الأميركيّة في مادبا. لها في الرواية “عين الهرّ” الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية 2009، و”سجّاد عجميّ”، و”سماءٌ قريبةٌ من بيتنا”.