من جديد "الأردن أولا"
المشرق العربي ينزلق إلى هاوية بلا قرار. والتشاؤم، مع الأسف، هو سيد الموقف، وفق أي نظرة واقعية لمسار الأحداث وسلوك القوى المختلفة، في المعارضة أو في موقع القرار. فالعراق ذاهب إلى التقسيم الواقعي، وسورية ذاهبة إلى تفتت واقتتال دموي مديد، ولبنان سيبقى معلقا على حافة الهاوية. وسوف تفرض إسرائيل أجندتها التي تغلق الباب على حل الدولتين في فلسطين. ولا يبقى إلا الأردن محاصرا بهذا الجحيم المفتوح، وأمامه سياسة وحيدة محتملة، هي حماية نفسه وأمنه ووحدته واستقراره، وأن يعبر بأمان هذه الحقبة التي لا يمكن التنبؤ بنهايتها ومآلاتها.
العملية السياسية في العراق انتهت، للأسف، إلى الفشل. ويتحمل نوري المالكي ومن يسانده المسؤولية الأولى عن هذا المصير. وتعود بذور الفشل إلى سياسة الاحتلال الأميركي منذ اليوم الأول، بفكرة إلغاء الدولة الموجودة؛ حيث تم إحراق وتدمير المؤسسات، وحل الجيش العراقي الوطني، وتشريع استئصال "البعث" الذي تحول إلى ممارسة الإقصاء والتهميش، الأمر الذي فتح الطريق لجماعات الإرهاب الوحشي والطائفي. وعجزت العملية السياسية العرجاء عن تصويب الموقف، حتى انتهينا الى التطورات الأخيرة؛ إذ رأينا سلطة المالكي وجيشه ينهاران في ساعات أمام انتفاضة العشائر وهجوم "داعش".
ليس متوقعا أن يستعيد المالكي السيطرة على المحافظات السنية، ولن يفهم الدرس بأن القوة المسلحة لن تُخضع شعبا يرفض سلطته. وهو يتمكن بفضل خطاب "داعش" الكريه والطائفي والإجرامي من تحقيق تعبئة مضادة عند الشيعة، لكن ذلك سيسمح فقط بتقسيم العراق إلى عراقين؛ سني وشيعي، بينما الأكراد الذين استكملوا السيطرة على المناطق المتنازع عليها سيستقلون واقعيا بإقليمهم. ولن تظهر دول معترف بها، لكن سيبقى العراق مقسما ونهبا للفوضى والقتل والدمار.
النظام السوري الذي لم يستفد إطلاقا من فشل القوة العسكرية منذ الشهر الأول، ومضى في نفس الطريق التي أغرقت سورية في الدم والدمار، سيستمر على نفس الخط متشجعا بنجاحات مؤقتة لن تحل المشكلة.
وتنظيم "داعش" ليس قوة حقيقية ذات مستقبل؛ لا في سورية ولا في العراق، لكنه سيستمر كظاهرة شيطانية بغياب الحل السياسي. وسوف يستمر صراعه مع المليشيات الأخرى في سورية، إلى جانب سلطة لا تحكم حدودا بل خطوط سيطرة عسكرية، تتمدد وتتقلص بلا حسم نهائي.
ولعل خريطة "سايكس-بيكو" لن تلغى رسميا، لكن المشرق العربي يذهب إلى ما هو أسوأ؛ إلى تفتت طائفي وعرقي دموي عابر للحدود، بلا أمل في حل سياسي قريب.
مقابل هذا السيناريو المرعب، لا يوجد سوى بديل واحد، وهو أن تنتصر القوى الموجودة في السلطة على ذاتها، وتقبل التفاهم مع القوى السياسية والاجتماعية الوطنية والمعتدلة على صيغة تشاركية جديدة للسلطة. وهذا الاحتمال هو الأضعف مع الأسف الشديد. والقوى الظلامية، بأجنداتها الفئوية والإجرامية، ستسرح وتمرح في هذا الوضع الوحيد الذي يسمح بديمومتها.
هل يمكن للأردن أن ينجو من "تسونامي الخراب" هذا؟ الجواب هو نعم، من دون تهوين من حجم التحدي والمخاطر. وقد قدم جلالة الملك للرأي العام الوطني، في لقائه بمجلس الوزراء أول من أمس، تطمينات بأن الأردن في موقف قوي، وأنه قادرعلى حماية نفسه وحدوده وأمنه الداخلي، وهو يقظ إزاء التطورات الجارية والمحتملة.
أمام هذا الانهيار الإقليمي الكارثي، ليس لنا إلا خيار السهر على أسوار بلدنا، والاستنفار لحماية أنفسنا. وبهذا المعنى، فإن شعار "الأردن أولا" يعود بقوة ومجددا ليكتسب معناه كاملا.
الغد