من أجل الفقراء قبل أطباء القطاع العام

من أجل الفقراء قبل أطباء القطاع العام
الرابط المختصر

لا خلاف على أن رواتب ومكافآت أطباء القطاع العام ضئيلة إلى حد كبير، لا سيما القدماء المشمولين بنظام التقاعد الذي يعني أن يتقاعد طبيب استشاري بثلاثمئة أو أربعمئة دينار، مع أن مشتركي الضمان من بينهم ليسوا في خير حال تبعا لعدم دخول «الحوافز» في حسبة الراتب الخاضع للضمان.

ستقول الحكومة إنها لا تضرب أحدا على يديه، وأن بوسع أي منهم أن يستقيل من عمله ويذهب إلى القطاع الخاص إذا وجد فرصة أفضل، وهو منطق يبدو وجيها للوهلة الأولى، وعنوانه خضوع المسألة للعرض والطلب أكثر من أي شيء آخر (حق الأطباء في الإضراب يبقى قائما، وكذلك الحال فيما يتصل بالاستقالات الجماعية).

على أن تجاهل مطالب أطباء القطاع العام في رواتب معقولة بحجة العرض والطلب يبدو خطيرا إلى حد كبير، ليس فقط لأنه يظلم قطاعا جيدا منهم، أعني من الذين يمكن لأحدهم أن يجني أضعاف راتبه لو فتح عيادة وخاض غمار العمل الخاص، لكنه لا يفعل ذلك تبعا لميله إلى الهدوء والسكينة بدل مناكفات القطاع الخاص ومنافساته، بل أيضا - وهذا هو الأهم بالنسبة إلينا- لأنه يظلم قطاع الفقراء الذين يتلقون العلاج في مستشفيات وعيادات القطاع العام، إذ أن هذا المنطق الذي اعتمد منذ عقود هو الذي أفضى إلى تفريغ القطاع المذكور (نعني مستشفيات وعيادات وزارة الصحة وليس الخدمات الطبية العسكرية) من الكفاءات الطبية، وترك لها قطاعا من ضعاف المستوى الفني، مع نسبة معتبرة من الفئة التي أشرنا إليها آنفا، أعني ذوي الكفاءة مع الميل للهدوء والاستقرار وعدم المغامرة، إضافة إلى قطاع ممن يريدون كسب الخبرة قبل الرحيل إلى القطاع الخاص أو العمل في الخارج، والنتيجة أن القطاع العام أصبح طاردا للكفاءات، الأمر الذي يهدد الخدمة التي تقدم للفقراء بمزيد من التراجع. ولا حاجة هنا إلى التذكير بالارتفاع الرهيب في أسعار الخدمة الطبية في القطاع الخاص، والتي لا يتحملها سوى القلة من الناس.

إنه ذات المنطق الذي تحدثنا بخصوص المعلمين، فكلما زاد وضع القطاع العام سوءًا، فرّغ من المبدعين، إلى جانب عزوف الأذكياء عن مهنة التعليم، لتغدو بمرور الوقت مهنة الطلبة العاديين أو الأقل ذكاءً، وصولا إلى وضع يؤثر بشكل مباشر على مخرجات التعليم برمتها، بخاصة ما يتصل منها بفئة الفقراء ومحدودي الدخل الذين لا يتمكنون من دفع رسوم المدارس الخاصة.

في حالة الأطباء يحدث وسيحدث نفس الشيء، إذ كلما استمر التراجع في رواتب الأطباء قياسا بالأوضاع المعيشية كلما تراجع المستوى الطبي لخدمات الوزارة، وليغدو في أسوأ حال إن لم يكن قد وصل هذا المستوى بعد.

من هنا، فنحن إذ ندافع عن حق أطباء وزارة الصحة في راتب مقنع وتقاعد جيد، فإننا ندافع عن حق الفقراء في خدمات صحية معقولة بدل أن يتحولوا إلى فئران تجارب لمن يريدون تعلم المهنة (المغاربة يقولون يتعلمون الحجامة في رؤوس اليتامى) واكتساب السمعة تمهيدا للانتقال للقطاع الخاص، أو ضحايا أخطاء طبية لا يعترف بها أحد بسبب ضعف الكوادر، فضلا عن عدم وجود قانون معقول للمساءلة الطبية.

حتى اللحظة يتوفر في القطاع العام أطباء متميزون كانوا على الدوام أحد الروافد المهمة للقطاع الخاص، وفيهم دون ذلك كثير أيضا، تماما كما أن في القطاع الخاص إلى جانب الكثير من المبدعين قوما يفتقرون إلى الكفاءة، لكنهم يمارسون الكذب والتدليس من أجل زيادة دخلهم، لكننا نؤكد في المقابل أنه إذا استمرت ضآلة الدخل لأطباء وزارة الصحة، فسيكون القطاع العام طاردا للكفاءات، لا سيما أن مهنة الطب هي الوحيدة التي لم تعاني من البطالة حتى الآن، مع أنها قد تعاني في المستقبل بسبب جحافل الخريجين الجدد، بخاصة من جامعات دول الاتحاد السوفياتي.