معلّقات ناقصة

معلّقات ناقصة
الرابط المختصر

ليس من الرصانة العلميّة أن نقبل بالبدايات ثمّ نتنكّر للنهايات، مثل من يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعضه!

 

لقد بدأنا من عند امرئ القيس، ولابدّ من أن نحيل إليه، فهو صاحب المعلّقة الأولى التي وقف فيها واستوقف، وبكى واستبكى، وهو النموذج الجماليّ للرجل الذي توافرت فيه معايير النسق الثقافيّ العربيّ بأعلى تجلّياتها، من نسب، وفروسيّة، وشعر، وفحولة، ملك ابن ملك، أبوه حجر بن آكل المرار زعيم أسد وغطفان، وأخواله التغلبيّون كليب والمهلهل.

 

إنّ ثقتنا بالأنثروبولوجيا الثقافيّة، ستحملنا على قراءة خريطة جيناتنا الثقافيّة، التي تعود إلى آلاف السنين، وما تزال تفعل فينا، رغم الهجنة، لتشكّل قوّة دفعنا التاريخيّة من جهة، وتحدّد قيمنا وأعرافنا ورود أفعالنا من جهة أخرى. لقد كان الجدّ امرؤ القيس ملكاً ضلّيلاً، وقد سلك منذ يفاعته دروب المجون، وتصدّى مثل أيّ مراهق لسلطة الأب الملك، ابن آكل المرار، المشغول بالشأن العام، والذي لن نتوقّع أنّه قد حباه يوماً بعين العطف، فلا يبدو أنّه لعب معه، أو احتضنه، أو وضعه يوماً على حجره وغنّى له أغاني الصبيان، مثله مثل معظم الآباء النسقيّين، الذين ختموا على قلوبهم بختم العائلة البطريركيّة العتيد، فتربية الرجال يجب أن تكون صارمة للرجال والنساء على حدّ سواء. لقد أوجبت معارضة الرغبات الأبويّة طرد الولد المشاكس من البيت باكراً، وحرمانه من الدفء الأسريّ، والرعاية، والاحتواء، ومن الصخرة الراسخة التي يستند إليها الأبناء عادة، لقد كتب على امرئ القيس الشقاء مقابل الحريّة.

 

لعلّ المفارقة التي وعاها ذلك الولد الضليل، كانت لحظة جاءه خبر مقتل أبيه على أيدي بعض من بني أسد، الذين ثاروا على استبداد زعيمهم، إذ وجد نفسه المظلوم الذي يبكي من ظلمه، والضحيّة التي تبكي الجلاّد، والمطرود الذي عليه أن يأخذ بثأر من طرده، فقال قولته الشهيرة في لحظة ضعف، أو لعلّها لحظة صدق، أو مكاشفة، ساعده عليها تغييب الوعي سكراً،: "ضيّعني صغيراً، وحمّلني دمه كبيراً..."!

 

لا أرى أنّ سعي ذلك العربيّ وراء ثأر أبيه قضيّة لها علاقة بفكرة غسل العار المرتبطة بصورته النسقيّة أمام المجتمع، إنّها الثأر لجرح شخصيّ، هو جرح البنوّة المحرومة، الذي سيثأر جرّاءه ممن حرمه إمكانيّة التسوية مع العطف، ومع الحنان المأمول، وجعله يفقد حضن أبيه لمرّة ثانية ونهائيّة. إنّ ثأره ردّ فعل غريزيّ أكثر من كونه اجتماعيّاً. ورث العرب تلك الثيمة من ضمن ما ورثوه تاريخيّاً من نسقهم الثقافيّ الممتدّ، إذ يظلمنا طويلاً الرعاة الرسميّون للوطن، أو سدنته السلطويّون، فلا يأبهون لحيواتنا، ولا لطموحاتنا وآمالنا في أن نعيش بكرامة، ونبني الأوطان، وحين يأتي من يقوّض سلطتهم نجد أنفسنا مضطرّين لمواجهته، فيبدو من يدافع عن الأرض مدافعاً عن السلطة، ويموت من أجل وطن يفترض أن نحيا به، وتبدو ميتته مجّانيّة في نظر البعض، أو آثمة في نظر آخرين، في حين قصد هو أن يموت شهيداً! هذه الإشكاليّة كفيلة بصناعة مواقف متنافرة، تضيع بناء عليها الأغراض الجوهريّة التي ندور حولها، ثمّ نبكيها بمعلّقات مدوّنة أو شفويّة، ننشرها غالباً على جداران القلوب، مزيّفة، أو غير معلنة، بسبب من أنّنا ورثنا عن امرئ القيس شجاعة ناقصة، في حين استطاع أن يكتب قبل ألف وستمئة سنة سيرة ذاتيّة، وإن كانت ملتبسة، خرج فيها على كثير من الأعراف النسقيّة، ففي حين ترى جلّ سلالته  في تعبير عاطفيّ من مثل البكاء ما يشوّه الفحولة، بكى بحرقة على من غادروه وقال:

 

وإنّ شــفائـي عــبــرة مـهـراقـة             فهل عند رسمٍ دارسٍ من مـعـوّلِ

ففاضت دموع العين منّي صبابة         على النحر حتّى بلّ دمعي محملي

 

هذا، ولم يكتف امرؤ القيس بدموعه، بل طلب من صحبه الوقوف بجلال على آثار ديار حبيبته، ليستذكرها بكلّ احترام، كما يفعل الفرسان والأحرار، لا كما يفعل غيرهم حين يركلون ماضيهم برخص، ويبيعون ذكرى أحبتهم للريح!

 

  • د. شهلا العجيلي: روائيّة، وأكاديميّة، أستاذة الأدب العربيّ الحديث في الجامعة الأميركيّة في مادبا. لها في الرواية "عين الهرّ" الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية 2009، و"سجّاد عجميّ".