معان ... الصندوق الأسود
منذ القرن الماضي ومعان حاضرة في الذهنية السياسية كمحافظة مشاكسة , ومدينة تنضبط بصرامة لواقعها الصحراوي الجاف وغضبها السريع الاشتعال , وحيويتها الحدودية منحتها فرصة لانتاج اقتصادها الخاص وبأغلبه كان اقتصادا موازيا غير خاضع لظروف البيئة الاقتصادية الاردنية وقوانينها , بحيث باتت المدينة تعتاش على جهدها الخاص وما تيسر من وظائف رسمية بأغلبها وظائف ترضية على حساب المشاريع , بحيث يتلقى المواطن هناك راتبا دون عمل , باستثناء منتسبي القوات المسلحة والاجهزة الامنية من ابناء المحافظة وهؤلاء ليسوا ضمن معادلة معان الشائكة اقتصاديا واجتماعيا .
معان باتت مثل الصندوق الاسود الذي يحتفظ بأسرار لا يُكشف عنها , ورسم الخيال الشعبي ونسجت صالونات النخبة الاف الحكايا عن اسرار معان وتفاصيلها , تارة بأصابع خارجية وتارة بأصابع داخلية لنخبة معانية تستثمر في اوجاع البسطاء من اجل مكاسب سياسية , وغالبا ما تنتهي قصص معان بغمزة عين او اتهام مبطن , وكأن المطلوب بقاء منطقة التهاب في الجسد الاردني الحساس من اي التهاب بفعل وجوده وسط دائرة ملتهبة .
معان نهاية الاقليم النفطي وبداية المخزون البشري في اقليم الجنوب , وهي رافد حيوي ونقطة تجمّع قوافل الحجيج , مما اكسب المدينة سمة التدين ورفادة القادمين الى مدينة الحجاج على ترابها , وكل هذه الميزّات الجغرافية فتحت شهية الباحثين عن ازمات , وسط سياسة حكومية سطحية تعاملت مع ملف معان بطريقة المياومة السياسية , فتارة نستخدم العصا بإفراط للترهيب وتارات نفتح الخزائن للترغيب دون وجود سياسة واضحة تقول ان التنمية المستدامة سياسيا واقتصاديا هي الحل مع ضرورة بقاء هيبة الدولة في اوضح تجلياتها , فالمدن الحدودية دوما تبحث عن التراخي للحفاظ على نهج الاقتصاد الموازي .
بداية الالفية الثالثة خرج مركز الدراسات الاسترتيجية في الجامعة الاردنية بقراءة عميقة لواقع معان وازمتها , وانتج لمن يرغب فرصة لقراءة واقع المدينة الجيوسياسي والاقتصادي المتشابك , فالواقع الاقتصادي في معان مربوط بالجوار وبالحدود اكثر من ارتباطه بالمركز , وعلاقة اهلها مع الاجهزة الامنية والقوات المسلحة علاقة ترابط واحترام ومحبة , ولكنها ليست كذلك مع الامن العام حسب منطوق دراسة مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الاردنية , وهذا مفهوم ومبرر , لان التصادم اليومي هو مع قوات الامن العام تنفيذا وحدودا ليس في معان فقط بل في سائر المحافظات الاردنية نظرا لطبيعة المهام الشُرطية المناطة بجهاز الامن العام .
معان مدينة حملت اسم محافظة , لكنها لا تحمل سمات المحافظة نظرا لافتقادها للحواف التابعة والاحياء المجاورة , فلا يوجد ضواحي في معان وربما يحمل حي المعانية العماني تلاوينا ديمغرافية وجغرافية اكثر مما تحمله المحافظة نفسها , مما اكسب المدينة سمة الخشونة الزائدة الناجمة عن قلة التنوع السكاني .
ملف معان ملف تنموي بامتياز , والتنمية تفترض التأهيل والتدريب وليس المهادنة في التعيين على المشاريع , وتنشيط الاستثمار العام يتطلب هيبة الامن لطمأنة المستثمر والموظف القادم من خارج المحافظة , لأن التنمية عملية شاملة فيها الاقتصادي والسياسي والامني , وهذا المثلث هو الذي يُقيم السياج على حدود المحافظة ويضمن ايقاعها المُنضبط وليس اي شيء اخر .
معان المخزون البشري للدولة ورائدة البدايات , وأصفى من عين الديك نقاءً ووطنية واخلاصا ومحاولة اخراج المحافظة عن سياقاتها الوطنية محكومة بالفشل بوعي اهل المدينة وحرصهم على الخروج من الافخاخ المنصوبة سواء كانت داخلية ام خارجية .
الدستور