مستقبل الملكيّة في الأردن .. أين "الحلقة المفقودة"؟

مستقبل الملكيّة في الأردن .. أين "الحلقة المفقودة"؟
الرابط المختصر

ثمّة شعور يتغلغل في أوساط النخبة السياسية الأردنية، لا تعكسه السجالات السياسية والتغطيات الإعلامية الخجولة، بأنّ ثمّة "حلقة مفقودة" في التعديلات الدستورية الجديدة التي بدأت عملية إقرارها بسرعة قياسية، عبر الحكومة فمجلس الأمة، خلال الأسبوع الحالي، وصولاً إلى صدورها رسمياً، عبر الإرادة الملكية.

المصدر الرئيس لذلك الشعور يعود إلى عامل الصدمة، فلم يتفاجأ الرأي العام وحده فقط، عشية عقد الجلسة الاستثنائية لمجلس النواب الأردني، بأنّ هنالك تعديلات دستورية تمّ "دزّها" على أولوية هذه الجلسة، بل حتى الحكومة نفسها لم تكن تعرف بها، واستمرّ وزير الإعلام ينفي مثل هذا التوجّه، إلى ساعاتٍ، قبل الإعلان الرسمي عنه، في رسالةٍ من رئيس الوزراء الأردني، عبدالله النسور، "يستأذن" فيها الملك، بإجراء تعديلات دستورية جديدة، أهمّها على الإطلاق، ومدار السجال، يتمثّل بمنح الملك الحقّ في تعيين رئيس هيئة أركان القوات المسلّحة ومدير المخابرات العامة، من دون تنسيب أو موافقة (حتى لو شكلية) من مجلس الوزراء.

التعديلات الجديدة تمّ تمريرها عبر حزمةٍ موازيةٍ ومكمّلة من الإجراءات تتمثّل بـ"إحياء" وزارة الدفاع وتفعيلها، مما قد يؤدي، للمرة الأولى منذ عقود طويلة، لفصل حقيبة وزارة الدفاع عن رئاسة الوزراء، بعد أن جرت التقاليد السياسية على أن يكون رئيس الوزراء هو نفسه وزير الدفاع، أمّا "التوجّه الملكي" الجديد الذي أفصح عنه بالتزامن مع التعديلات الدستورية، فيتمثل بقيام وزارة الدفاع بمهمات متعددة، مثل الدعم اللوجستي والنشاطات الاقتصادية والتنموية المرتبطة بعمل القوات المسلحة، بينما تُترك مهمة "القتال الاحترافي" لرئيس هيئة الأركان المسلّحة.

الرواية الرسمية التي فسّرت التغييرات الجوهرية الجديدة ذهبت إلى ربطها بوجود إرادة سياسية جدّية لدى الملك في المضي في موضوع الحكومة النيابية، في المستقبل القريب، وهي خطوة مهمة، لكنّها حسّاسة في المرحلة الانتقالية، في ضوء التجارب العربية المقلقة في الجوار. لذلك، ومن أجل الوصول إلى صيغةٍ آمنة للعبور الديمقراطي، فإنّ الملك سيضع مفاتيح المؤسسات السيادية (الجيش والمخابرات) في يده، بعيداً عن التجاذبات السياسية والحزبية والنيابية، عندما ينتقل الأردن، قريباً، إلى مرحلة "الحكومة النيابية" التي تمثّل الأغلبية الحزبية في البرلمان.

ينسجم هذا التفسير، تماماً، مع ما طرحه الملك، منذ عام تقريباً، فيما سمي "الأوراق النقاشية"، وتحدّث فيها، بوضوح، عن إعادة تعريف دور "الملك" في النظام السياسي، بأن تكون "الملكية" صمّام الأمان لاستقرار الدولة والسلم الاجتماعي، وحامية للقيم السياسية والوطنية العليا، وتعريف مصالح الأردن، الخارجية والأمنية، بينما يُترك للحكومات النيابية المفترضة مستقبلاً إدارة الشأن العام، والتعامل مع الأوضاع الاقتصادية والسياسية الداخلية.

بمقتضى التفكير المستقبلي لإعادة تعريف دور "مؤسسة العرش"، فإنّ الملك يريد أن يعود "خطوة للوراء"، كما أخبر هو سابقاً بعض السياسيين في جلسات مغلقة، ويحتفظ بالبعد الرمزي والسياسي الوطني الجامع، ولا يكون "مصدّاً" للاتهامات الشعبية والسياسية، بدلاً من الحكومات، كما حدث في السنوات الماضية التي شهدت ارتفاعاً غير مسبوق، في سقف الانتقادات السياسية للملك نفسه.

تبدو المفارقة الرئيسة في هذه التعديلات الجديدة بأنّ الملك يمتلك، فعلياً، القرار في تعيين قادة الجيش والأجهزة الأمنية، ولا ينازعه رئيس وزراء، أو مسؤولون، هذه الصلاحيات، فهو، أي الملك، أيضاً، قائد القوات المسلّحة، ومن هذه الزاوية، يرى سياسيون وقانونيون أنّه لا حاجة لتلك التعديلات، طالما أنّها، فعلياً مطبقة، أمّا توقيع رئيس الوزراء والوزراء المعنيين على الإرادة الملكية، أو تنسيبهم بالأسماء، فهو مجرّد مسألة شكلية.

لكن رئيس الوزراء، عبد الله النسور، يردّ على هذه الدعوى (في لقاء خاص مع كتّاب صحافيين) بأنّ هذه القاعدة العرفية تتناسب مع الواقع الراهن، أما إذا قامت غداً حكومات نيابية، ذات ميول حزبية، قد تنازع الملك هذه الصلاحيات، مما يهدد حالة السلم الداخلي والأمن الوطني، ويذكّر النسور بالخمسينيات، عندما أرادت الحكومة النيابية فرض اسم قائد الجيش على الملك، وحدث تنازع بين المؤسسات السيادية والسياسية، وتمّ إقحام هذه المواقع في حالة التجاذب الداخلية.

 

من الواضح أنّ الهدف المرجو من التعديلات الجديدة يقترب من الحالة المغربية، أي تنازل الملك عن جزء من صلاحياته وسلطاته إلى الحكومة الجديدة، مع إبقائه بعضها وتحصينها دستورياً، وربما مثل هذه الخطوة بمثابة درجة جديدة على سلّم التحول الديمقراطي المتدرّج، وفقاً لمؤيديها، لكنّ معارضيها والمتحفّظين عليها، والمتوجّسين منها، من قانونيين وسياسيين يثيرون إشكالات حقيقية حولها، يتمثّل أبرزها بأنّها تتعارض مع فلسفة نظام الحكم في الأردن، وهو نيابي ملكي، ويقوم على أنّ الملك غير مسؤول، طالما أنّه يحكم من خلال حكومته، أمّا هذه التعديلات فتمنحه حق الحكم المباشر، وبالتالي، تثير إشكالية "السلطة والمسؤولية"، طالما أنّه أبعد الحكومة عن هذه المؤسسات السياسية والسيادية.

إلاّ أنّ التحفظ الأكبر يتمثّل في أنّ هذه التعديلات "تدستر" مراكز القرار والقوى في النظام السياسي، وتمنح المؤسسة العسكرية والمخابرات ما يشبه الحصانة الدستورية، وتخرجها من دائرة الولاية العامة للحكومة، وتجعل من الحكومة النيابية المفترضة خالية الدسم، مهمتها فقط التعامل مع الأزمات الداخلية، وبصورة خاصة الاقتصادية والخدماتية، بينما شؤون الأمن الوطني والسيادة والجيش والقرارات الإستراتيجية تبقى في يد مؤسسة العرش والمؤسسات الأخرى!

مثل هذه التعديلات، وفقاً للمتحفظين، لن تؤدي إلى ملكية دستورية، بل إلى نمط آخر مختلف، ربما يمثل "نكوصاً" لا تقدماً في مفهوم المؤسسة الملكية، ودورها في النظام السياسي، خصوصاً أنّ هذه التعديلات سبقت، زمنياً وفعلياً الحكومة النيابية التي لم تر النور بعد، ولم تتزاوج مع نصوص شبيهة في الدستور المغربي، تلزم الملك باختيار زعيم حزب الأغلبية البرلمانية، فعلى أرض الواقع، ما سيجري تمتين صلاحيات الملك وتعزيزها، بينما ما تزال الحكومة النيابية التي من المفترض أن يسبقها قانون انتخاب متقدم، في طور الوعود، فلماذا الاستعجال بخطوات معينة وتأجيل أخرى؟!

مثل هذه التساؤلات هي التي أحدثت الحلقة المفقودة، في القراءة السياسية والشعبية لهذه الخطوة، وهي التي ولّدت الجدالات الحالية، فيما إذا كنّا أمام خطوة إلى الأمام أم إلى الخلف، وفيما إذا كان هنالك سبب غير معروف لدى الأوساط السياسية، حتى أن الحكومة فوجئت، أدى إلى الاستعجال في إجراء هذه التعديلات، من دون تحضيرات سياسية وإعلامية؟!

العربي الجديد