مستقبل الأردن:دولة العقد الاجتماعي أم عناقيد عقود
سلسلة الأزمات المجتمعية الأخيرة ودربكة التعاطي معها رسميا تحتم تعليق جرس الإنذار لحسم الجدال المتنامي بين المكونين الرئيسيين; الأردنيين وفلسطينيي الجذور لجهة نسج عقد اجتماعي - سياسي جديد من أجل كبح مظاهر مقلقة باتت تعكس تفكك الهوية الوطنية الجامعة وتمس مستقبل الوطن وأمنه المجتمعي.
فما أحوجنا الآن إلى حوار حضاري يقوده متنورون من كلا الجانبين بهدف تعزيز ما تبقى من أمن مجتمعي وسلم أهلي. ولا بد من تسريع هذا الحوار قبل الانتخابات التشريعية أواخر العام, وإلا ستنعكس العصبيات والردة على أجوائها, ما ينذر بتعميق الفرز المجتمعي في غياب خطاب رسمي واضح.
ذلك أن العقد القائم بين النظام والأردنيين ترسخ نتيجة توافق تاريخي حول آلية بناء دولة القانون وحفظ الحقوق مع نشوء الإمارة عام ,1921 قبل أن يترجم إلى دستور عام ,1952 بعد ست سنوات على إعلان الاستقلال وعامين على اندماج الضفة الغربية مع المملكة الفتية آنذاك.
لكن يبدو أن تزاوج المعادلة السياسية والاقتصادية الذي أطر المجتمع على مر العقود التسعة الفائتة قد استنزف مخزونه, ولم يعد قادرا على التحليق في الدولة في زمن العولمة والانفتاح الاقتصادي وانسداد أفق الحل السياسي غربي النهر. هذا التقادم مقترنا مع التداعيات الأخيرة عمق الجدال حول فعالية العقد الاجتماعي.
في عرف جان جاك روسو (1712-1778), يتكئ العقد الاجتماعي, في مجتمع مثالي, إلى الرغبة الطبيعية لمختلف فئاته. على هذا الأساس, يختار الأفراد التخلي عن مصالحهم الشخصية مقابل الصالح العام للدولة. ومن محاذير هذا العقد, المفترض أن يشكل قواعد الدول: "يولد الإنسان حرا لكنه يجد نفسه مكبلا أينما كان".
اليوم يلحظ أي مراقب للمشهد السياسي الداخلي انقساما عموديا داخل المجتمع. فلم يعد لدى مكوني المجتمع الرئيسيين نقاط التقاء أساسية باستثناء الالتفاف حول النظام الملكي الهاشمي والخوف على المصالح الخاصة بدل المصلحة العامة. والجزيئية التي لم تعد تعجب الغالبية هي مفهوم دولة المؤسسات والقانون ذلك أنها لم تعد تخدم مصالحنا الخاصة وبتنا نركض لتغييرها.
في هذه الأجواء المأزومة ظهرت فئات تعتقد أنه آن الأوان للحديث عن عقود اجتماعية جديدة بين السلطة ومكونات المجتمع المختلفة, لضمان حصة أكبر في الكعكة السياسية لخدمة مصالحها الضيقة وطمأنة مخاوفها. كل واحد منهم, على ما يبدو, يريد جذب الدولة لمصالحه الخاصة عبر إبرام عقد اجتماعي يراعي خصوصياته مع أن أي إزاحة للخيمة الهاشمية, مظلة الجميع, نحو اليمين أو اليسار قد يؤدي إلى خلل يمس الأمن المجتمعي والاستقرار السياسي.
هناك مكون رئيسي في المجتمع يطالب بعقد اجتماعي جديد لأنه بات يشعر أن المسلمات التي كان يعيش في كنفها في دولة "الرعية" لم تعد قائمة, وأنه لم يعد مصدرا رئيسيا في قوة الدولة وشرعيتها أو المستفيد الأكبر من التركيبة الحالية. هذه الشريحة تطالب بتأجيل استحقاق الإصلاح السياسي الحقيقي لحين حل القضية الفلسطينية واستعادة الفلسطينيين لحقوقهم على أراضيهم. في المقابل يطالب جزء آخر بعقد اجتماعي جديد يضمن محاصصة سياسية وعدالة تمثيل لجميع دافعي الضرائب وحاملي الرقم الوطني مهما كانت أصولهم.
لكن السؤال يبقى: هل يطالب هذا المكون الرئيسي بعقد اجتماعي جديد ينضوي تحت لوائه كل مكونات المجتمع أم عقد اجتماعي جديد خاص بهم? ولو افترضنا أن الدولة وافقت على إبرامه فهل يعد هذا تنازلا عن دولة القانون والمؤسسات? ولو تنازلت لمصلحة عقد جديد مع هذه الفئة, ماذا سيحدث للفئات الأخرى في المجتمع? وهل سيكون لدى الدولة استعداد للتوصل إلى عقد مع هذه الفئة وتضيع بذلك دولة القانون والمؤسسات ويستعاض عنها ب¯ "دولة العقود الاجتماعية" فتغدو المملكة أول دولة في العالم تستنبط نظام حكم جديدا يستند إلى تفاهمات مع مكونات اجتماعية متعددة.
وهنا بيت القصيد: هل يخدم ذلك الموقف المصلحة الوطنية العليا للدولة? وهل الوازع الحقيقي لكل ذلك هو خوف على مصلحة خاصة أو خوف على مستقبل بلد, ظل في منأى عن العواصف في وقت تهاوت دول مجاورة أو عصفت بها حروب أهلية واضطرابات?
هذه الدعوات المتقابلة مؤشر خطير, لأن التاريخ السياسي علمنا أن العقود الاجتماعية تصاغ بين الحكم وكل أفراد المجتمع. واضح أن العقد الحالي تضرر بسبب ضعف قدرة أجهزة الدولة المختلفة على حماية الأمن وصون العدالة: حصاد التطورات الاقتصادية الاجتماعية وتعبيراتها السياسية التي مست معادلة تفاهمات كانت قائمة بين الأردنيين من القمة إلى القاعدة.
ويبدو اليوم أن مستقبل الأردن غدا على مفترق طرق.
مؤسسات الدولة الحيوية وأصحاب القرار سمعوا بالتأكيد ما تقوله مكونات المجتمع وفئاته المختلفة. لذلك آن الأوان أن يشرع الجميع في تحرك استراتيجي على أعلى المستويات للتأكيد بأن الدولة تمثل جميع مكونات الشعب, وأنها ليست بحاجة إلى عقد اجتماعي جديد, بل إلى تعزيز العقد القائم بطريقة تحسن من آلية إدارة الحياة السياسية العامة تحدد من خلالها حقوق المواطنة والهوية, المسؤوليات والواجبات بوضوح كامل.
وبدل من أن تجلس الدولة مع المكونين الرئيسيين كل على حدة, من الأفضل أن ترعى من خلف الكواليس حوارات مكثفة بين رموز الكتلتين, حتى يخرجوا برؤية مشتركة تختزل هواجس وإيجابيات الطرفين وصولا إلى الخروج من الهويات الفرعية? بعد ذلك تقول الدولة: هذا المطلب يمشي وهذا لا يمشي. وفي حال فشلت الدولة في معالجة مخاوف المكونين, فستبدو أقرب إلى الوقوف مع أولئك المطالبين بصياغة عقود جديدة.
جزء من الحل يكمن أيضا في العودة إلى محطات مفصلية في حياتنا الاجتماعية-الاقتصادية-السياسية تم القفز عنها, مع أنها كانت تخدم دولة المؤسسات والقانون ومصلحة البلاد والعباد. عشية الاحتفالات بذكرى تأسيس الجيش العربي والثورة العربية الكبرى, مطلوب الآن بلورة مرجعية للجوامع الوطنية وقيم تحدد سيكولوجية المواطن للمحافظة على الأمن المجتمعي والبناء على المنجزات التي حفرها الأجداد والآباء في أرض المهاجرين والأنصار.
المملكة تزهو بدستور لم يستنفد بعد. والمطلوب تفعيل وتحديث القوانين واستنباط أخرى لخدمة دولة القانون والمؤسسات. أما استمرار الحديث عن عقد اجتماعي جديد يعني أن من يطالب بذلك يحاول مأسسة نظام محاصصة يؤدي إلى تدمير البلاد, فالنظام الملكي الهاشمي للجميع وكلنا متساوون أمام الدولة ومؤسساتها.
شئنا أم أبينا نحن أمام واقع جديد. هناك توتر داخلي يضعف المجتمع ولا بد من معالجته حالا قبل أن يفرض العلاج من الخارج. ونتساءل هل مررنا بتسعة عقود سمان حسب الاعتقاد السائد وعادت علينا بفائدة عظيمة, تم خلالها بناء مملكة تظلل كل مكونات المجتمع بعيدا عن مشكلة الهويات الفرعية, العصبيات, الإقليمية والجهوية المدمرة. لكن هل تأتي تسعة عقود عجاف تأكل ما زرعناه, على منوال سورة يوسف مع اختلاف الأرقام?
قال تعالى : "يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)".