مرة أخرى:الانتخابات وجدل المشاركة والمقاطعة
ذات صيف في الخرطوم ، كان لكاتب هذه السطور حوار مع المفكر والناشط الإسلامي الإشكالي الدكتور حسن البنا ، دار حول جملة من الموضوعات ، أكتفي بحكم طبيعة المناسبة بالإشارة إلى واحدْ منها: موقف الإسلاميين من الانتخابات ، يومها كنا قد غادرنا للتو مناخات انتخابات 1996 في فلسطين والتي قاطعتها حماس بدعوى أنها تجري في ظلال أوسلو وتحت راياته ، وكنا نتحضّر لاتنتخابات المجلس النيابي الثالث (1997) والتي صادف أن قاطعتها جماعة الإخوان المسلمين وحزبها السياسي ، حزب جبهة العمل الإسلامي في الأردن.
سألت الدكتور الترابي عمّا إذا كان أحدّ من إخوان الأردن أو فلسطين قد سأله رأيه ، مشورته أو حتى نصحيته بشأن المشاركة في الانتخابات أو مقاطعتها.. أجاب الرجل من دون تردد أو تلعثم: نعم ، لقد سألني الإخوان من الحركة والحزب والجماعة ، وقد أشرت عليهم بالمشاركة في الانتخابات رغم ما قيل ويقال عن أنها تجري في ظل الاحتلال وتحت ظلال أوسلو فلسطينياً ، أو بموجب قانون الصوت الواحد للناخب الواحد أردنياً.
لم يُؤخذ بنصيحة الترابي لا في الأردن ولا في فلسطين ، رغم مكانة الرجل في تلك الأزمنة ، والتي لم تكن قد تلوّثت بعد بتحالفه مع جورج جارنغ وانفصاليي الجنوب ومتمردي دارفور ، من إبراهيم خليل إلى عبد الواحد النور ، وما بينهما وحولهما من روابط بالغرب وإسرائيل وكل المشاريع التفتيتية التي تنتظر السودان وتتهدده.
مناسبة هذا الكلام ، ما قيل قبل بضعة أسابيع من الإخوان جماعة وحزباً سياسياً ، قد استشاروا ، وما خاب من استشار ، نظراء لهم في حماس وإخوان مصر حول الموقف من انتخابات 2010 ، وقد لقي إخوان الأردن ما سبق لهم أن لاقوه واستمعوا إليه في الخرطوم وعلى لسان الترابي ، وقد استجابوا في المرة الأخيرة بمثل الطريقة التي تعاملوا بها مع "النصيحة" في المرة الأولى ، أي العمل بخلافها ، وقرروا المقاطعة بعد أن أسقطوا نداء المشاركة.
قلنا من قبل ، أن كل ما أورده الإخوان ، حزباً وجماعة ، من ملاحظات وتحفظات على قانون الانتخابات والسياق الانتخابي ، أمر مفهوم بالنسبة لنا ، بل ومقبول في معظمه ، ونرى أنه يمثل "عين العقل" ، لكننا مع ذلك ، لا نجيز قرار المقاطعة ولا نحبذه ، بل ونرى فيه مدخلا للعبة تهميش وتهشيم متبادلة ، سيدفع "الإخوان" ثمناً باهظاً لها ، فضلا عن الأثمان التي ستدفعها أطراف عدة ، منها البرلمان ذاته ، والتجربة الديمقراطية الأردنية ، والحياة الحزبية ومستقبل مسار الإصلاح السياسي بصورة عامة.
لم نُستَشر في أمر المشاركة والمقاطعة ، ولو استُشًرنا لاقترحنا رفع وتيرة المواجهة لقانون الانتخابات والتصدي لكل الظواهر والمعيقات التي ما تزال تعترض درب الإصلاح السياسي والتحوّل الديمقراطي ، ولكنا إلى جانب كل هذا وذاك وتلك ، كنا سنقترح المشاركة في الانتخابات ، وخوض غمار المنافسة على كل مقعد ، والسعي للظفر بـ"معركة الأوزان والحجوم" ، ونقل كافة المطالب ـ الشروط التي تقدمت بها الجماعة من الحكومة إلى "تحت قبة البرلمان" وتحويلها إلى برنامج عمل للكتلة النيابية الإخوانية ، أو كتلة العمل الإسلامي كما اعتادوا على تسميتها.
السؤال الذي يقلقنا حقاً هو: هل فكّر مقاطعو الانتخابات بالمنصّات البديلة للبرلمان التي سيستخدومنها للتعبير عن الموقف وحشد الرأي العام وكسب التأييد؟..هل فكّروا بسؤال ما العمل بعد المقاطعة؟ هل ظنّوا أن تسجيل موقف الآن ولمرة واحدة ، يمكن أن يكون بديلاً مناساً لتسجيل المواقف مرات ومرات وكلما اقتضت الحاجة وقُضي الأمر ، مثل هذه الأسئلة لم نسمع إجابة عنها في استراتيجية ما بعد المقاطعة.
والحقيقة أن ثمة سؤالا يطرح نفسه بإلحاح على الإخوة في الحركة الإسلامية: إن كان إخوان مصر يشاركون في الانتخابات وهم مُستلبو الشرعية ومطاردين بكل القوانين العرفية وتعج السجون والمحاكم بالعشرات والمئات منهم. وإن كان إخوان العراق قد شاركوا في كل انتخابات جرت في مرحلة ما بعد صدام حسين ، تحت الاحتلال الأمريكي ورغم وجوده وبتنظيمه والتنسيق معه. وإن كان إخوان فلسطين (حماس) قد شاركوا في الانتخابات في ظل أوسلو وتحت ظلال الاحتلال السوداء (لا الوارفة). وإن كان إخوان سوريا قد أعلنوا الهدنة والتهدئة ومدّوا يد التعاون مع النظام أملاً بالمشاركة وطمعاً بها ، وهم الذي يحصدون أحكاماً بالإعدام لمجرد ثبوت عضويتهم في "التنظيم غير المشروع". إن كان هذا حال الفروع والحركات والجماعات الإخوانية في معظم دول الجوار ، وإذا كانت تلك هي مواقفها ، فلماذا يتميز موقف إخوان الأردن وهو الذين يتمتعون بميزات نسبية على نظرائهم بالميل السريع نحو المقاطعة ، لماذا يقاطعون الانتخابات مرتين خلال عقد من الزمان تقريباً ، هل درس الإخوان نتائج مقاطعة انتخابات 1997 وبقائهم خارج قبة البرلمان الثالث عشر لأربع سنوات ، من خسر ومن ربح ، هل من الحكمة أن تُعاد التجربة من دون تقييم أو تقويم.
أنا هنا لا أتحدث عن "حاجة الحكومة" لانتخابات بنصاب سياسي كامل ، وتطلعها لنسبة اقتراع لا تقل عن حاجز 2007 ، أنا هنا أتحدث عن المشاركة والمقاطعة من منظور الإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي في البلاد ، من منظور الحياة الحزبية الأردنية ، فهذا هو مبتدأ وخبر المسألة برمتها ، ومن هنا نشتق حساب الربح والخسارة.
الدستور