للمجتمعات الإنسانية طرق وأساليب ورؤى تحدد وجودها ومستقبلها، وتسير على هديها وتمثلاتها، والتفكير والسلوك يتشكلان ضمن سلسلة متراكمة من التربية والتعليم ومؤثرات المجتمع، لذلك فإن البحث في الظواهر الاجتماعية يتجاوز حدود القراءة المجتزأة، ولا تتعمق في دراسة البنى الاجتماعية والاختلالات المنهجية التي أنتجت الحالة وغذتها ورعتها.
إن ما يدعونا للتفكير وإعادة النظر في حياتنا اليوم هو ما نراه من قتل ودمار مبني على أسس دينية وصراعات طائفية، كل منها يوظف النص الديني ليخدم مصالحه وتطلعاته وأفكاره، وهذا الصراع كما نراه مبني على فكرة تكفير الآخر وشيطنته، ومن ثم إيجاد المبرر لقتله أو نفيه أو التخلص منه بأي شكل من الأشكال، لأنه لا يستحق الحياة، ومن المفترض ألا يكون موجودا فيها.
وبالنظر لحواراتنا ومناقشاتنا وصراعاتنا الفكرية، فإن هناك ظاهرة تتفشى في مجتمعاتنا بشكل لافت، وتفتك في طرق تفكيرنا، وتسيطر على ثقافتنا، وهي ما يسمى ظاهرة التكفير، ولا أعني التكفير بالمفهوم الديني الذي يلصق دائما بالحركات التي تتبنى ما يسمى بالفكر الإسلامي، لكنني أعني التكفير بمفهومه الشامل، وهو الشعور بامتلاك الحقيقة المطلقة وعدم سماع الرأي الآخر وتصفية الخصوم، ومن ثم يصبح لدى الشخص نظرة أحادية لا تتقبل غيرها بل لا تسمع غيرها، فتتحول إلى فكرة مغلقة تخشى أي نقد مهما كان مصدره، وإذا بحثنا في هذا المعنى فإننا نجد أنفسنا نمارس هذا السلوك ابتداء من البيت وانتهاء بالعمل العام.
لابد أن نعترف أننا نمارس التكفير مع أطفالنا في البيت منذ صغرهم، حين لا نستمع لهم ونسخف آراءهم، ونفرض عليهم رؤانا وأحلامنا، ولا نحاورهم بل نقدم لهم الأوامر، وما أكثر استخدامنا لفعل الأمر معهم! وإذا احتجوا قابلناهم بالضرب والإهانة والسب والشتم، فماذا تطلب من طفل تربى على أن يكون متلقيا للأمر غير مشارك فيه، ليبدأ بعد ذلك صراعه مع نفسه ومحيطه بما اعتاد عليه، وإذا انتقل إلى المدرسة فإنه يواجه قهرا وكبتا أكبر مما كان، إذ يطلب منه أن يسكت ساعات طويلة ليسمع ما يقول المعلم، ولا يسمح له بإبداء رأيه ولا إبداء رفضه، وإذا فعل فإنه يقابل بسلبية مطلقة ويتهم بقلة الأدب وعدم اللياقة وأحيانا بالضرب والشتم. أليس رفض المعلم لرأي الطالب، بحجة أنه يملك الحقيقة المطلقة وما على الطلاب إلا أخذها وحدها دون غيرها، هي نوع من أنواع التكفير ضد الطلاب؟
ولا يختلف الأمر كثيراً في الجامعات، إذ أن الأستاذ متسلط لا يقبل إلا رأيه ويفرضه على الطلبة معتقداً أنه الحقيقة المطلقة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. أليس الأستاذ الجامعي الذي لا يسمح للطلبة بالحوار والنقاش ومخالفة رأيه، إنما يمارس التكفير ضد طلبته، ويقمع إبداعهم؟
تستمر السلسلة إلى المؤسسات التي لا تسمح لموظفيها بأن يحتجوا على قرار اتخذه مديرها، حتى تصل إلى الأنظمة السياسية القمعية التي لا تسمع إلا صوتها وتفرض على الناس رأيها بالقوة، وتتهم من يعترض بأنه خائن لا يستحق الحياة وأنه ضد الوطن. إننا نمارس كل هذا التكفير ثم نتساءل، لماذا يذهب شبابنا للفكر المتطرف، ولماذا يمارسون العنف في الشارع والمدرسة والجامعة؟
إن الوعي الفردي يتشكل نتيجة ممارسات المجتمع واتجاهاته، ولذلك فإن أي خلل في بنية المجتمع ستؤدي إلى اختلال في سلوك الفرد، ويكون التعبير عن هذه الاختلالات بطرق مختلفة، وحسب توجهات الفرد ذاته، ومن هنا يصعب علينا الحكم على أي تصرف إلا إذا استطعنا تفكيك البنى الاجتماعية للتوصل إلى موقع الخلل، وما يضخ في المجتمع من أفكار في هذه الأيام ما هي إلا مسوغات لهذه النزعة التدميرية التي نعيشها، فهناك مناهج تعلم بالتلقين وتنتج أجيالا لا ترى إلا بعين واحدة، ولا تقبل الآخر، وتنطوي على نفسها وذاتها.
إن من يتشكل في وعيه أنه صاحب الحق المطلق، وأنه القيّم على الناس، يصبح أعمى عن رؤية الحقيقة ويتحول إلى تكفيري لا يرى غيره، ولذلك نستطيع فهم الطريقة التي تتعامل بها الحركات الإسلامية مع مخالفيها، ونفهم كذلك الطريقة التي تتعامل بها السلطات السياسية مع خصومها: إن الشعور بامتلاك الحق والحقيقة هي فكرة تكفيرية تدميرية لا تقود إلا إلى الدمار.
وإذا أردنا أن نكون أكثر عمقا فإننا سنجد أن هذه الثقافة هي التي باتت تسيطر على تفكير أغلبنا في هذه الأيام، وما نراه في شوارعنا من نزق وسرعة غير مبررة وما نراه في جامعاتنا من عنف وضرب وشتم ما هو إلا نتاج حتمي لهذه الثقافة التي استقرت في وعينا ووجداننا، وتحولت إلى سلوك نمارسه في مختلف مجالات حياتنا.
- يوسف ربابعة: كاتب وباحث ورئيس قسمي اللغة العربية والصحافة في جامعة فيلادلفيا. له مجموعة أبحاث في مجال التعليم والفكر والسياسة، ومنها: تجديد الفكر الديني، الشعر والقرآن.