مالك العثامنة يكتب: بين عهدين
عام 1996، كنت ضمن مجموعة من الصحفيين المعتقلين بعد أحداث شغب شهدها الجنوب الأردني، تحديدا في أغسطس من ذلك العام.
كانت الصحافة الأسبوعية هي الطاغية، وكنت مشاركا في إحداها ضمن تغطية للأحداث في مدينة الكرك الأردنية، والتي كانت دوما عاصمة "الوعي" السياسي الأردني، وتم اعتقال ناشر الجريدة مع رئيس تحريرها وثلة من صحفييها منهم كاتب هذا المقال.
كان من بين التهم الموجهة لنا تهمة غريبة في قانون العقوبات نصها يقول "إثارة النزاع والفتنة بين عناصر الأمة".
بعد محاكمات متعددة استمرت أكثر من سنة، تم الحكم بعدم مسؤولية أي من المتهمين!
الملك حسين كان رأس الدولة ورمزها، وصاحب القوة الوحيدة في كل المشهد السياسي
لكن المآلات النهائية فيها مفارقات لافتة قياسا للتهم الموجهة حينها، فناشر الصحيفة هاجر إلى الولايات المتحدة وقد سبقه إليها رئيس التحرير نفسه، وأحد الصحفيين المعتقلين ـ أيامها ـ صار اليوم نقيبا للصحفيين ورئيسا لتحرير أكبر جريدة يومية حكومية، وآخر صار وزيرا والآن سفيرا للمملكة في دولة آسيوية، وكاتب المقال الذي تدرج في مواقع حكومية استشارية هاجر أيضا إلى بلجيكا.
طبعا هذا موثق في الصحافة وسجلات إدارة السجون من دون شك، لكن ما لم يتم توثيقه ولن يجد له أحد أثرا، اعتقال البعض منا قبل التحويل للمدعي العام والمحاكمات، في أقبية المخابرات العامة ضمن زنازين انفرادية، كان التحقيق فيها مشمولا بالضرب والإهانات، الكل في مسيرته المهنية "داخل الأردن" تعاون بعد ذلك مع ذات جهاز المخابرات ليشق طريقه في عالم الصحافة الغريب والمدهش والشاق في الأردن.
كانت الأمور واضحة بلا التباسات في ذلك العهد، الملك حسين كان رأس الدولة ورمزها، وصاحب القوة الوحيدة في كل المشهد السياسي، باقي مؤسسات الدولة وأفرادها كانوا رجال الملك ومؤسساته.
كانت أحداث "آب اللهاب" عام 1996، قد سبقتها بسبع سنوات تقريبا، أحداث أكبر حجما حفرت نفسها في الوجدان الأردني، بما تم تسميته بأحداث "نيسان" لعام 1989 نسبة للشهر الربيعي الذي انفجرت فيه الأوضاع أولا في المدينة الأكثر جدلا في الحياة السياسية الأردنية، مدينة معان الجنوبية، والتي كانت منذ ذلك الوقت وقبله وبعده وحتى اليوم تعاني الإجحاف التنموي والاقتصادي.
وكذلك وكالعادة، كان الملك حسين هو المنقذ، في أزمة كان رجال الملك فيها هم المشكلة، وعلى رأسهم رئيس وزرائه المدلل شخصيا لديه "زيد الرفاعي".
مع رحيل الملك حسين، كان هذا الأسلوب في إدارة الدولة قد رحل معه، وحسب وصف ذكي سمعته من ناشط سياسي، فإن الملك الراحل صاحب الكاريزما كان يحمل وصفة خاصة لحكم الدولة، وصفة مكتوبة بخط وحروف ولغة لا يمكن لغيره أن يفك طلاسمها.
قد يكون هذا صحيحا حسب ما عرفه الأردنيون عن ملك حكمهم وكان يقضي ظهيرته في غذاء متوسدا الوسائد بين البدو في خيامهم ويأكل بيديه ويستمع لشعر نبطي (ويعقب عليه أحيانا) وفي المساء يكون في الإليزيه في باريس مثلا، يرتدي بذلة حديثة ويأكل بكل أناقة على الطريقة الفرنسية ويتحدث مع مضيفيه بفرنسية متقنة، أو إنكليزية رفيعة المستوى تعكس طريقة تفكيره الهادئة والعميقة.
جاء ابنه الأكبر للحكم، حصيلة مصادفات هي ذاتها تحصيل حاصل للوصفة المعقدة التي حكم الراحل بها الأردن، ليصبح الأمير عبدالله ملكا، ويعلن في أول لقاء له على قناة "سي أن أن" الأميركية "أنا لست أبي".
بهذا التصريح، وما سبقه من رحيل جنائزي مهيب واحتفالي وحزين، كانت وصفة الحكم التقليدية "الأسطورية" قد انتهت.
♦♦♦
لا أحد يمكن أن يفسر ما قاله الملك عبدالله حول اختلافه عن أبيه، إلا هو؛ هل كان يقصد أنه يحمل برنامج حكم مختلف؟ أم هل كان يعني بكلامه أنه مدرك لقدرات والده الراحل الاستثنائية وليس على الجميع توقع ذلك منه؟
لم يبق من رجال الملك الراحل حول الملك الحالي إلا من استطاع أن يقولب نفسه تماما بعبارة "انا لست أبي"، باقي رجال الملك الراحل إما غابوا تماما عن المشهد (أو تم تغييبهم)، كما استطاع بعضهم التمدد في العهد الجديد بالتوريث لأبنائهم.
*نقلا عن موقع الحرة
♦♦♦
في مطلع حكم الملك عبدالله الثاني عام 2000، تم استدعائي للمخابرات العامة لمقابلة مسؤول الإعلام فيها، وكان يخاطبني (كأردني من أصول أردنية) بودية "ابن العم" المعروفة، والتي يريد فيها استقطابي لصالح ما يقول، قاطعته فجأة وأنا أشير إلى صحيفة يومية كان "مانشيتها" يحمل تصريحا للملك يقول فيه "الوحدة الوطنية خط أحمر"، فرد الضابط المسؤول عن الإعلام (وهو فعليا رئيس تحرير أغلب الصحف الأردنية) بعصبية: "الملك لو غلطان إحنا بنفهمه غلطه".
لا أنكر صدمتي التي تحولت مع الأيام ووقائع الأحداث والسنوات في الأردن إلى إدراك لتشظي القوى وتشكل مراكزها من جديد في الدولة الأردنية التي صارت مختطفة.
حدث الكثير بعد ذلك. ففي عهد الملك عبدالله الثاني، تم اتهام وإدانة مديري مخابرات بالفساد وتوبيخ اثنين آخرين، وفي عهد الملك عبدالله الثاني ارتفعت نسبة العجز والدين أضعاف مضاعفة، وفي عهد الملك عبدالله الثاني صارت الحكومة تتباهى بالإعلان أنها استطاعت توفير رواتب الشهر القادم، وفي عهد حكومة جلالته أيضا، لم تهدأ الأزمات، وكانب نسبة الإطارات المشتعلة في شوارع مدن أردنية أكثر بكثير مما يفترض أن تستخدمه السيارات.
لا أحد يمكن أن يفسر ما قاله الملك عبدالله حول اختلافه عن أبيه، إلا هو
هذا كله يضع الملك الذي لا يزال غالبية الأردنيين يحترمونه ويحترمون عائلته في حرج مستمر أمام شعبه. وحسب وصف سمعته من أحد مقربي الملك الراحل، وقد تقاعد من العمل الرسمي، حيث يقول إن الملك حسين كان لديه منطلقات ليقول في خطاباته للناس وقد قالها بأكثر من صيغة: "كيف تجرأون؟" أو "ما هذا الجحود لكل ما أقدمه لكم؟". بينما الملك عبدالله الثاني لم يستطع ولن يستطيع أن يقول ذلك.
♦♦♦
أحداث الرمثا الأخيرة، هي آخر ما حدث في سلسلة أحداث غضب متتالية، اشتعلت فيها المدينة الحدودية في الشمال، والمتاخمة على خط التماس السوري، والقريبة جدا من درعا، حيث انفجرت الأحداث في سوريا أول مرة.
في تلك المدينة، انفجر غضب الناس بعد قرارات حكومية تتعلق بالسجائر وإدخالها عبر الحدود، وهو قرار حكومي لن يستهدف أو يضر مسافرا قادما عبر المطار، لكنه يستهدف ويدمر بنية معيشة لكل سكان المدينة التي تعيش على التجارة البينية الحدودية، وبمعرفة السلطات لسنوات طويلة.
الفرق في تلك السنوات الطويلة، أن الوضع تغير، وصار يتحكم في المنفذ الحدودي متنفذون، من بينهم سوري يقود فصيلا مسلحا لكنه يعيش في الأردن برعاية رسمية وأمنية غير مسبوقة.
الحكومة (وهي مثل كل سابقاتها فاقدة الولاية)، نفذت أمرا شبحيا غامض المصدر بتعطيل حركة التجارة البينية، فتعطلت معيشة الناس، وصار قطع الأرزاق مساويا لقطع الأعناق.
لكن القصة تبدو أعقد من ذلك، فحسب مصدر أمني مباشر تواصل معي وطلب عدم الكشف عن هويته، أخبرني بأن مديرية مكافحة التهريب لا تستطيع دخول الرمثا منذ سنوات، بعد أن صارت وكرا لتهريب ما هو أخطر من السجائر، من أسلحة ومخدرات. وأن بعض المهربين التابعين لذوي النفوذ والسلطة يحملون السلاح في وجه موظفي الحكومة على الحدود، وأن المنطقة الحدودية تلك، صارت خارج سيطرة الدولة فعليا ومنذ سنوات.
هذا المصدر الأمني نفسه، وفي حديثه معي أعلن بأسف أن السياسات الحكومية المالية أنهكت الدولة والمواطنين، لكن ما يحدث في الرمثا هو محاولة مضادة لترسيخ سلطة خارجين عن القانون ومتنفذين، وعلى حساب الناس أنفسهم.
كانت الرمثا تشتعل غضبا وقهرا، وبالتزامن، كانت المياه مقطوعة عن العاصمة ومدن أخرى في المملكة، لأنه حسب الرواية الحكومية فإن راعيا قطع خط الإمداد لسقاية غنمه!.
♦♦♦
أثناء كل ذلك في الرمثا، وبعيدا عن النيران والغازات المسيلة، كانت العاصمة بمراكز قواها المتنفذة تنقل أحداثا متعددة، منها جاهة يقوم بها نخب أعمال متنفذة بزيارة إلى آخر من ذات الفصيلة، لإقناعه بالتنازل عن الترشيح لمنصب رفيع في أمانة عمان (أحد مناجم الذهب في الجباية والعوائد)، وبينما يتم ذلك أيضا كانت هناك نخب سياسية وبرلمانية جاهزة من بينها وزير الداخلية نفسه حاضرة في جاهة زواج لابن وزير داخلية سابق.
وبالتزامن مع ذلك كله، كان آخر رئيس وزراء أردني في عهد الملك الراحل (فايز الطراونة)، ثم رئيس ديوان الملك عبدالله الثاني يجمع كل أركان الدولة في قاعة فخمة لحضور توقيع كتابه "سيرة ذاتية" والتي عنونها بعنوان "بين عهدين".
في عهد الملك عبدالله صارت الحكومة تتباهى بالإعلان أنها استطاعت توفير رواتب الشهر القادم
نعم دولة رئيس الوزراء وكاتب السيرة.. القصة كلها تكمن في ذلك.. بين عهدين.
عهد كان فيه الملك قادرا على احتواء كل التناقضات وتوظيفها لمصلحة الدولة (المملكة)، وعهد جديد انفلتت فيه كل تلك التناقضات لتتحول إلى مراكز قوى تنافس الملك نفسه على سلطاته، فتدفع الدولة بكل عناصرها ومكوناتها ثمن ذلك.
هذا كله يذكرني بعبارة شكسبيرية على لسان الملك هنري الرابع يقول فيها "الرأس الذي يحمل تاجا.. لا تريحه الوسادة" (ترجمة بتصرف). وتلك عبارة استخدمها الملك الراحل نفسه عنوانا لمذكرات نشرها بالإنكليزية.