"ماغنا كارتا" أردنية
حرّكت القصة الصحفية التي نشرها الصحفي الأميركي جيفري غولدبيرغ، في مجلة "ذي أتلانتك"، عن الملك وآرائه تجاه القضايا الحيوية، داخلياً وخارجياً، المياه الراكدة في المشهد السياسي خلال الأيام الأخيرة.
لكنّ جزءاً كبيراً من النقاش بقي يدور في فلك إمّا اللغة الذرائعية التبريرية والمنطق الدفاعي، أو اللغة الهجومية التحريضية، بدون أن ندخل في تفكير معمّق لما تطرحه من قضايا وآراء جدلية مهمة وأساسية، وما تقدّمه من مواقف وانطباعات شخصية ليست مقدّسة، ولا هي حتى نهائية لدى الملك نفسه، لكنّها تعكس قناعات وصل إليها بعد هذه الفترة من الحكم والتجربة.
أطرف ما في الأمر هو تلك الصدمة التي أصابت الأوساط الحكومية والإعلام الرسمي مما نشر في المقابلة، برغم أنّ 95 % من آراء الملك هذه سبق للأوساط السياسية أن عرفتها عبر اللقاءات التي كان يجريها الملك نفسه، لكن الفرق هذه المرّة أنّها ظهرت بصورة واضحة مباشرة للعلن (بعيداً عن جدلية السياقات والتأويلات، وهو أمر متوقع) بدون المرور بقنوات ومراحل "الفلترة" الرسمية والدبلوماسية.
كان يفترض أن يتم التعامل مع تداعيات المقابلة بدرجة أكثر ذكاءً، وبمبادرة غير تقليدية.
لكن ما حدث (للأسف) أنّنا قرأنا بياناً متوقعاً رتيباً من إعلام الديوان الملكي، وشاهدنا وزير الإعلام الزميل العزيز سميح المعايطة، على التلفزيون الأردني خارج السياق كلّه. فيما تطوّع البعض بالهجوم على الصحفي الأميركي، وكأنّه متآمر على الوطن، برغم أنّ كل ما فعله هو أنّه اقتنص فرصة ثمينة لمعلومات وآراء تمنحه "ضربة إعلامية" بالمعايير المهنية التي لا يعرف غيرها!
بعيداً عن كثير من التفاصيل المثيرة في المقابلة، فإنّ أبرز ما فيها برأيي (وهو ما لم يلتفت إليه إلاّ عدد قليل من المحللين المحليين)، أنّ الملك يفكّر جديّاً وبقوة في موضوع الملكية ومستقبلها (وهو ما أفصح عنه بتفصيل في ورقته النقاشية الثالثة).
وربما كان واضحاً أكثر، وصريحاً بدرجة أكبر، عندما تحدّث عن ملكية على غرار الملكية البريطانية؛ أي ملكية دستورية كاملة الدسم، يورّثها لابنه؛ حكم مؤسسي دستوري واضح المعالم والسمات، بعيداً عن التعقيدات الكبيرة التي تسم أنماط الحكم في العالم العربي.
الملك يتحدث عن نظام حكم جديد، يقوم على مبدأ العقد الاجتماعي الواضح، لا على منطق الولاء والبيعة و"التسحيج".
وهي ربما تكون الرسالة القاسية غير المتوقعة لدى أطراف متعددة في المجتمع، أرادت تقديم صورة الملك داخلياً على نحو مناقض لما ظهر في المقابلة!
يظهر الملك -في المقابلة- خصماً للمجموعة التي تقف في الخندق المعادي للإصلاح، وتصرّ على الالتزام بالمعادلة التقليدية.
ويبدو مشدوداً إلى قضية واضحة وصريحة، تتمثّل في ضرورة تغيير صيغة الملكية في الأردن، والوصول إلى نظام جديد في المستقبل.
وهو ينتقد القوى التقليدية التي تعارض ذلك، من داخل "السيستم" ومن خارجه، خشيةً من التغيير أو حماية لمصالحها أو التزاماً برؤيتها المتكلّسة!
ثمة ملاحظات متعددة على هامش القصة، حول كثير من الانطباعات والقضايا، لأنّها ليست قصة عادية، بل هي استثنائية غير تقليدية، بكل ما تحمله الكلمة من معنى!
لكن الأكثر أهمية فيها، هو كيف يفكّر الملك في مستقبل الملكية، وتطوير النظام السياسي الأردني.
وهو ما يستحق أن نجعله في عمق النقاش المطلوب، طالما أنّ الملك نفسه لديه الجرأة والمبادرة لفتح هذا الموضوع الحسّاس والحيوي، والذي كان خلال السنوات الماضية بمثابة "تابو" يُمنع الاقتراب منه!
الملك يطرح صيغة لعقد اجتماعي جديد بينه وبين الشعب، أو "ماغنا كارتا أردنية" (على حد تعبير الصديق والمحلل السياسي علي يونس)؛ على غرار الوثيقة التاريخية البريطانية الشهيرة.
لكنها صيغة سلمية متدرجة هادئة للوصول إلى نظام حكم ديمقراطي بعد سنوات، عبر طريق آمنة وعقلانية.
الغد