ماذا بعد شعار "الشعب يريد إصلاح النظام"؟
سقف الشعارات المرفوعة في الشارع يرتفع باضطراد منذ تحركت المسيرات الاحتجاجية نهاية العام الماضي. في الوقت ذاته تتكاثر بأثر رجعي احتفالات بعيد ميلاد الملك على شكل مسيرات ولاء للعرش والوطن, إعلانات تأييد تملأ اليوميات, يافطات تزين الشوارع وحملات منظمة على الفيسبوك والتويتر.
آخر شعارات المعارضة تصر على أن "الشعب يريد إصلاح النظام". وفي ذلك سابقة. معطوفا على ذلك مطالب شخصيات بامتدادات شعبية ونخبوية مسّت الخطوط الحمر تنادي بالعودة إلى دستور 1952 أو تشجع إصلاحات دستورية عميقة ترسخ "ملكية دستورية", على غرار الأنظمة القائمة في بريطانيا واسبانيا, حيث يملك الملك ولا يحكم.
مقابل ذلك, هتفت مسيرة وسط البلد "الشعب يريد إسقاط الأحزاب", "لا يمين ولا يسار, أبو حسين عمود الدار".
وكأن الدفع باتجاه فرز عمودي بين الشعب والنخب, مع نقاط الالتقاء كثيرة.
فما يحرك الطرفين المتضادين في الشارع رغبة حقيقية في الحفاظ على "الصيغة الملكية" لنظام الحكم الهاشمي, الذي يحظى بشرعية سياسية ودينية ويشكّل صمام الأمان في مجتمع بكتلتين رئيسيتين: شرق أردنيين وفلسطينيي الجذور.
دون ذلك, درجة الاختلاف شاسعة في بلد يحاول تحديد شكله الجديد وهويته السياسية.
وهناك خشية من تفاقم احتقان الأجواء الشعبية على أيدي أطراف تمثل أجندات متعاكسة على نحو قد يدفع صوب فلتان الأوضاع ونتائج غير محسوبة قد تأخذ منحى إقليميا.
انقسامات مشابهة تظهر داخل الحكومة, التي تشكّلت قبل شهر في غمرة الأزمة السياسية.
وزراء ينشطون لتسريع تنفيذ الأوامر الملكية حول إصلاحات سياسية حقيقية تفضي إلى تداول سلمي للسلطة عبر بوابة المجلس النيابي. آخرون يحاولون فرملة الحراك بسبب الشعور بحال عام من الارتياح من أن المملكة عبرت عنق الزجاجة السياسي بعد إقالة حكومة سمير الرفاعي, وسلسلة اللقاءات التشاورية بين الملك وشخصيات تمثل طيفا واسعا من القطاعات. توج ذلك الحراك المكثف بخطاب للملك أمام رئيس وأعضاء مجلس الوزراء ورئيسي وأعضاء مجلسي الأعيان والنواب. معطوفا على ذلك خطوات ووعود حكومية لتعزيز مسار الحريات السياسية والإعلامية, محاربة الفساد والمفسدين, حماية الفقراء واستبدال نهج اقتصاد السوق المفتوح منذ عقدين بمفاهيم اقتصاد السوق الاجتماعي مع تعزيز آليات منع الاحتكار وحماية القطاع الخاص.
ما يحرك الفريق الوزاري نحو أولوية السياسة على الاقتصاد وبالعكس رغبة في ضمان الأمن والاستقرار في مملكة تعيش أزمة إدارة بتفاصيلها السياسية, الاجتماعية والاقتصادية في زمن الثورات الشعبية ضد الأنظمة العربية في تونس, مصر وليبيا.
رئيس الوزراء د. معروف البخيت, الذي نال ثقة بشق الأنفس يوم الخميس, يصر على إصلاح سياسي تدريجي يؤدي إلى زيادة التمثيل الحزبي البرامجي في "النيابي" وصولا إلى تشكيل الحكومات وفق برامج الأغلبية السياسية. وهو يعد بمراجعة "عقلانية للسياسات الاقتصادية والاجتماعية وبرامجها وآلياتها, للتصدي للأخطار".
المعارضة السياسية بقيادة الإسلاميين, متوجسة وفاقدة للثقة بإمكانية إحداث إصلاحات حقيقية توسع من فضاء الحريات السياسية والإعلامية وقاعدة المشاركة الشعبية في عملية صنع القرار. ذهنية الإخوان تفترض سوء النوايا وفي البال ربما عديد السنوات التي أضاعتها الحكومات وهي تلعب المراوحة والدوران داخل حلقات مفرغة هدفها ترحيل الأزمات.
داخل "النيابي" مواقف متناقضة بطريقة صارخة حيال الإصلاحات تجلّت خلال ماراثون خطابات الثقة النيابية للحكومة. فثمة أعضاء يرفعون سقف مطالبات الإصلاحات السياسية, بما فيها ضرورة تعديل مواد دستورية تتصل بمنح المجلس دورا رقابيا وتشريعيا أكبر. وآخرون يسعون لاستبدال الإصلاح السياسي بأولويات وضع الطعام على موائد ذوي الدخل المحدود, وهم في ازدياد, وتوفير فرص عمل في قطاع عام يفتقر إلى كفاءة إنتاجية.
باستثناء كتل ذات التوجهات السياسية, غالبية النواب محافظون-تقليديون, تحركهم أجندات شخصية في مجلس انتخب على أساس الصوت الواحد مع بدعة الدوائر الوهمية التي عزّزت أجواء العصبيات الجاهلية والولاءات الضيقة. في أحاديثهم, يعكس النواب رغبة عارمة في "تبييض وجوههم" أمام الملك والرأي العام بعد "ثقة 111-غيت" قبل رحيل حكومة الرفاعي ب¯ 39 يوما. وفي خلفية المشهد النيابي قلق من أن مجلسهم سيكون أول من يدفع ثمن الإصلاح السياسي وإقرار قانون انتخاب يفضي إلى حل النيابي تمهيدا لإجراء انتخابات تشريعية مبكرة, ربما في الربع الأخير من العام الحالي.
مراقبون مستقلون يرصدون أيضا فتورا في الحماس الرسمي تجاه تسريع الإصلاحات السياسية, أقلّه عبر اصرار د. البخيت على التدرج في عملية التحديث وأحاديث داخل الغرف المغلقة تتوقع انجاز منظومة الإصلاحات السياسية: قوانين الانتخاب, الأحزاب, الاجتماعات, اللامركزية والبلديات, أواخر العام بعد أن كانت تتحدث قبل أسابيع عن فترة زمنية بين ثلاثة وستة شهور.
كذلك يرصدون استمرار الازدواجية في الخطاب الرسمي بين الاستهلاك الداخلي ومخاطبة الخارج, وإصرار أصحاب قرار على تحميل مفاصل أخرى مسؤولية بطء الإصلاحات. يضاف إلى ذلك استمرار جهود "تثبيط العزيمة" من قوى تقليدية تسيطر على بيروقراطية الدولة, بأجهزتها كافة عبر فزاعة استحالة إصلاحات سياسية عميقة تمس هوية الأردن وشكله قبل حل القضية الفلسطينية وضمان حق العودة والتعويض لنصف السكان.
عنوان هذا التخبط داخل مكونات الدولة يكمن في غياب التوافق على حجم وتفاصيل الخطوات الإصلاحية المطلوبة في القرن الحادي والعشرين, والقادرة على استباق مطالب الإصلاح في هذه المرحلة الحرجة داخليا, إقليميا ودوليا, ما ستترتب عليه تكاليف سياسية باهظة وربما تسويات مستقبلية غير مرغوبة.
فما هو أساسي عند طرف قد يكون ترفا عند الآخر.
لكن ثمّة حزمة حقائق لن يستطيع رجال الدولة إنكارها إلا إذا أصروا على العيش ضمن عقلية القلعة, لعبة الاستدارات وازدواجية الخطاب.
كل يوم يمر من دون إصلاحات في العمق سيأتي على حساب هيبة الدولة, كما يعمق الشرخ في مجتمع ذات غالبية شبابية تتواصل في فضاء الانترنت خارج أطر الأيديولوجيات العتيقة, مع ظهور دول جديدة في الجوار تستطيع أن تقدم نماذج سياسية واقتصادية أفضل للغرب على حساب الأردن, الطفل المدلل لعقود.
يزداد منسوب الضغوط الأمريكية والأوروبية على حلفائهم, بمن فيهم الأردن, لإحداث إصلاحات عاجلة لتجنب تغيير أنظمة تضمن مصالحهم. الإصلاحات ستكافأ بمزيد من المنح والعكس صحيح. وقد نرى تغييرا في نمط المنح الغربية, بعيدا عن الأردن نحو تونس ومصر لدعم التحولات الديمقراطية.
الشعوب العربية ستواصل انتفاضاتها ضد حكم الفرد, الفساد وتداخل السلطة بالتجارة, قمع الرأي الآخر, قهر المواطن وإهانة كرامة الفرد. فالمعادلات السياسية التي كانت مقبولة بالأمس لم تعد قابلة للاستمرار.
انتقال شرارات الانتفاضات فتحت شهوة الشعوب العربية على نقل الصورة بالصيغة التي تناسبهم لأنهم أيضا يستحقون واقعا أفضل.
اقتصاديا, زيادة رواتب القطاع العام والمتقاعدين على حساب زيادة عجز الموازنة قد تمس استقرار الدينار بعد شهور. هذه الحزم قد تؤجل الانفجار الشعبي لشهور مقابل شعبوية آنية. لكن كيف ستواجه الحكومة أمام توالي ارتفاع أسعار المواد الغذائية والنفط بينما قطاعات اقتصادية واسعة تشكو من كساد غير مسبوق مع تصاعد معدل التضخم.
النظام السياسي لا يستطيع مواصلة الانحياز لمطالب فئة دون أخرى. لعبة فرق تسد انكشفت. كذب ونفاق الإعلام الرسمي لم يعد ممكنا بعد أن كسرت الانترنت احتكار التحكم بعقول الشعب. في عالم السياسة, ليس ثمّة شهادات تأمين مدى الحياة لضمان البقاء على الكرسي. مفتاح البقاء يأتي من خلال تحويل التحديات إلى فرص. واستمرار الاعتماد على التحالفات الخارجية والمساعدات الاقتصادية تكتيك مرحلي.
الحكومة تستطيع اليوم إحداث إصلاحات سياسية واقتصادية متزامنة, بعد سنوات من المفاضلة. بالتأكيد الإصلاح السياسي أسهل ذلك أنه يتطلب تغيير منظومة القوانين الضامنة للحريات, بالارتكاز إلى تراكمية الجهود السابقة بما فيها توصيات علاها الغبار للجنة الميثاق الوطني (1990) والأجندة الوطنية (2005). لكن تحسين الوضع الاقتصادي ليس بالسهولة ذاتها. فهي عملية تراكمية, تحتاج لخلق ميزة تنافسية, تدفق رؤوس أموال, طمأنة القطاع الخاص وتحريك قطاعات السياحة, النقل, البنوك وسائر الخدمات.
من هنا يعوّل مريدو الإصلاح السياسي على قرار تعيين طاهر المصري رئيسا للجنة حوار وطني, بعد أن توافقت مفاصل صناعة القرار على أنه الرجل الأفضل والأكثر قبولا لهذه المهمة.
لكن طريقة التعيين حملت نوعا من التسرع ?? فليس من صلاحيات رئيس السلطة التنفيذية تكليّف التشريعية بهكذا مهمة. كان من الأولى أن يأتي القرار من الملك, مدعوما برسالة تفصّل أهداف اللجنة وآلية عملها ومدته, بالطبع بعد الاتفاق بين القصر, الحكومة والسلطة التشريعة على عدد أعضاء اللجنة, وآلية اختيارهم.
المأمول الآن أن يمنح الملك اللجنة الحرية الكاملة باقتراح الإصلاحات السياسية بما فيها قانون الأحزاب والانتخاب مع إمكانية إجراء تعديلات دستورية, خصوصا المتصلة بتحصين "التشريعية". ويفضل أن لا يزيد أعضاء اللجنة عن ,30 وليس 80 بحسب التصور الحكومي, وأن تحدّد مهلة الانجاز بسقف زمني لا يتعدى ثلاثة أشهر, وان يمنع تدخل قوى الشد العكسي المتنفذّة في توجيه نقاشات اللجنة.
السرعة مطلوبة. ولا بد من الحكمة في قراءة المشهد الآخذ بالتشكل داخليا وفي الإقليم, وإلا سبقتنا الأحداث, إن واصلنا تدوير الوجوه ذاتها على رأس المفاصل الحسّاسة, بدعوى أنهم مجربون. فالحكومة تغيّرت, والجميع يرصد التغيرات الاقتصادية, الاجتماعية والسياسية, لضمان بقاء الأردن قويا ومحصنا.
العرب اليوم