مأساة أحمد المطارنة

مأساة أحمد المطارنة

لا أحبُّ الميلودراما في الأدب; لأنّها تستثير الشفقة المبتذلة وتخاطب نزعة الإحسان البرجوازيَّة الزائفة وتصوِّر حالات البؤس الاجتماعيّ المفرط على أنَّها مجرَّد حالاتٍ فرديَّة مرتبطة بسوء الحظّ أو ببعض المفارقات الغيبيَّة الخاصَّة. بيد أنَّ الحياة, خصوصاً في ظلّ النمط المتوحِّش من الرأسماليَّة, مليئة بالقصص الميلودراميَّة الحقيقيَّة. وهي ليست ناجمة عن نوعٍ مِنْ سوء الحظّ أو سوء التدبير, بل نتيجة طبيعيَّة لتسييد شريعة الغاب باسم حريَّة السوق وحريَّة رأس المال.

منذ أيَّام وأنا أتجنَّب الكتابة عن المواطن أحمد المطارنة الذي أحرق نفسه احتجاجاً على القهر الطبقيّ والظلم الاجتماعيّ اللذين تعرَّض لهما; لأنَّ الألم في قصَّته يفوق التصوَّر والاحتمال. وأجد نفسي, غالباً وفي مواقف مختلفة, أفكِّر في الوضع الصعب الذي دفعه إلى اللجوء إلى هذا الخيار العنيف ضدّ نفسه, وفي الأفكار القاتمة التي لا بدَّ أنَّها كانت تسيطر عليه قبل اتِّخاذه هذا القرار القاسي وإقدامه على تنفيذه.

زوجة المرحوم المطارنة قالت لإحدى الفضائيَّات اللبنانيَّة إنَّه كان يمكث أياماً يتجوّل في الشوارع ولا يأتي إلى البيت, وعندما كانت تسأله عن السبب, كان يقول لها: كيف آتي إلى البيت مِنْ دون أنْ أحمل بيدي رغيف خبز?!

أحمد المطارنة القادم مِنْ بلدة عي في الكرك ليعمل في أمانة عمَّان, استكثر عليه بعض مسؤوليه في الأمانة أنْ يتمتَّع بشيءٍ مِنْ حقِّه الطبيعيّ والدستوريّ في العمل, فأحالوه على الاستيداع, ثمَّ استكثروا عليه بعد ذلك حقَّه في أنْ يشرح لهم ظروفه المعيشيَّة المستحيلة بسبب قرارهم ذاك, فرفضوا استقباله في مكاتبهم, وسدّوا أبوابها في وجهه, فوجد نفسه في الشارع, خصوصاً بعدما قامت شركة الكهرباء بقطع التيَّار عن بيته.

قصَّة أحمد المطارنة تذكِّرني بأجواء قصص انطون تشيخوف عن البؤس الشديد الذي كان يعيشه فقراء روسيا في القرن الثامن عشر. وكنتُ في مقال سابق عن حراك ذيبان قد أشرتُ إلى أوضاع الفقر التي تتجاوز كلّ الحدود في المحافظات, ويزيدها صعوبة أنَّه يصعب على الفقير هناك أنْ يفصح عن ظروفه المعيشيَّة المهينة أو يتنازل عن شيءٍ مِنْ كرامته. ولقد كان نهج الليبراليَّة الجديدة, هو المسؤول الأوَّل عن مثل هذه الحالات المستحيلة من الفقر ونتائجها المأساويَّة, ومع ذلك فلا يزال هو النهج المتّبع من الحكومة والذي تصرّ على مواصلة التمسّك به.

وفي العاصمة تنشغل قيادات أحزاب المعارضة, بألوان طيفها المختلفة, بهمومٍ أخرى لا علاقة لها بهموم القطاع الأوسع من الناس, على رأسها قانون الانتخاب, الذي يجهد كلٌّ منها نفسه لتفصيله بطريقة تضمن له الحصول على الحصَّة التي يطمح إليها في المجلس النيابيّ القادم, بدلاً من التفكير في صيغة تضمن مصلحة البلاد والعباد. وبالتالي, فقد مرَّتْ قصَّة أحمد المطارنة على هؤلاء مرور الكرام, ولم تأخذ منهم ولو التفاتة بسيطة إلى واقع الناس المأساويّ في المحافظات وحقوقهم الكثيرة المهدورة.

أمَّا الحكومة فلم يصدر عنها أيّ ردّ فعل يتناسب مع هذه الحادثة الفاجعة والخطيرة; فهي بالنسبة لها مجرَّد حادثة فرديَّة تعبِّر عن سوء تدبير شخص ما نكرة لأمور حياته, لا أكثر. بل إنَّها لم تكلِّف خاطرها حتَّى بتشكيل لجنة تحقيق متخصِّصة لمعرفة الأسباب المباشرة التي أدَّت إلى هذه الواقعة المأساويَّة وما هي أبعادها وعواقبها المحتملة.

العرب اليوم

أضف تعليقك