لقد "تكلَّم" أوباما.. فهل رأيتموه؟!

لقد "تكلَّم" أوباما.. فهل رأيتموه؟!
الرابط المختصر

كلاَّ، لم يأتِ أوباما "مُسْتَمِعاً"؛ فإنَّ أحداً مِمَّن "استمع إليهم" لم يتكلَّم أكثر منه؛ لقد جاء وغادر بصفة كونه "المتكلِّم الأكبر"؛ ولم يتكلَّم إلاَّ بما تستطيبه أسماع الإسرائيليين، وتمجه أسماع الفلسطينيين. أوباما "تكلَّم" وكأنَّه يخاطب الفلسطينيين وسائر العرب قائلاً: "لقد تكلَّمت؛ فهل رأيتمونني؟!".

وإنَّني لأدعو كل من له أُذْن لا تسمع، وعين لا تُبْصِر، وعقل تحتله الأوهام، إلى أنْ يُصدِّق، ويأخذ مأخذ الجد، الزعم الجديد، ومؤدَّاه أنَّ أوباما (الخبيث الماكر؛ لكن بما يحتاج إليه السلام من خبث ومكر طَيِّبَيْن) قد جاء ليؤسِّس لصلة جديدة جيِّدة مع "الشعب الإسرائيلي"، ومع شبابه على وجه الخصوص، فإذا ما أَزِفَت السَّاعة، ساعة تَقَدُّمه بـ "مبادرة سياسية (جديدة، جيِّدة)"، تُحرِّر "حل الدولتين" من قيوده الإسرائيلية الثقيلة، هَبَّ "الشعب الإسرائيلي" هبَّة رجل واحد، انتصاراً لصديقه أوباما، و"مبادرته"، فأسقط في يد نتنياهو، الذي لن يبقى لديه، عندئذٍ، من خيار إلاَّ أنْ يستخذي ويُذْعِن لمشيئة "الصديقين": أوباما و"الشعب الإسرائيلي".

ومن هذا الزَّعم ابتدعوا "تقويماً"؛ فالرئيس أوباما، في ولايته الثانية والأخيرة، لم يَقُلْ كل هذا الذي قال في إسرائيل، والذي اهتزَّت له أُذْن نتنياهو طَرَباً، إلاَّ لكونه "برغماتياً"، يَصْلُح تعريفاً لـ "البرغماتية"، و"مكيافلياً"، يَصْلُح تعريفاً لـ "المكيافلية"؛ فلا تتعجَّلوا "صَهْيَنَتِه"!

وإذا أردتم دليلاً مُفْحِماً، فانْظروا إليه وهو "يتسوَّل" عن الفلسطينيين دولةً لهم؛ ألَمْ يخاطب الشباب الإسرائيلي قائلاً: "ضَعوا أنفسكم في مكان الفلسطينيين. أُنْظروا إلى العالم بعيونهم. ليس من العدل أنْ تعيش طفلة فلسطينية من غير أنْ تكون لها دولة، وأنْ ترى جيشاً أجنبياً يتحكَّم في حركة والديها كل يوم"؛ وإنَّها لدولة إنْ قامت فلن يُنْسَب الفضل في قيامها إلاَّ لعبارة أوباما "لله يا أيها المحسنون (الإسرائيليون)".

لكنَّ أوباما "الخبيث"، والذي أدركَ بذهنه الوقَّاد أنَّ بين الجمهور الإسرائيلي، الذي خاطبه بعبارات تستدر عواطفه الإنسانية، أناسٌ قلوبهم من حَجَر، ولا يَثِقون إلاَّ بعقولهم التي يكسوها الصّدأ التلمودي، توفَّر على إقناعهم بالدولة الفلسطينية على أنَّها مصلحة لدولتهم، ليهوديتها وديمقراطيتها؛ ولقد خاطبهم (لعلَّهم يَفْقَهون) قائلاً: "أُنْظروا إلى الديمغرافيا غرب النهر (أيْ في الضفة الغربية). إنَّهم فلسطينيون، في أكثريتهم العظمى، الذين يسكنون هنا؛ فإذا لم تَقُمْ لهم دولة، واستمرت إسرائيل في السيطرة عليهم، وضَمَّت إليها الضفة الغربية والقدس الشرقية، فكيف لدولتكم أنْ تدوم وتزدهر بصفة كونها "يهودية" و"ديمقراطية"؟!".

المعنى الضِّمْني لكلام أوباما كان واضحاً جلياً؛ فهو إنَّما أراد أنْ يقول للإسرائيليين من معارضي دولة فلسطينية يأتي بها "حل الدولتين": إنَّني أُشاطركم الرأي نفسه، والاعتقاد نفسه؛ فليس لهؤلاء السكَّان (الفلسطينيين) من حقٍّ قومي أو تاريخي حيث يسكنون ويعيشون؛ فهذه الأرض كلها لكم؛ وأنتم فحسب الذين يحقُّ لهم، قومياً وتاريخياً وإلهياً، أنْ تكون لهم دولة هنا، وأنْ يشمل إقليمها "أرض الميعاد" كلها؛ لكنَّني، ومن أجل الحفاظ على دولتكم، "يهودية" و"ديمقراطية"، أدعوكم إلى أنْ تسمحوا لهم بأنْ يقيموا لهم دولة في هذا الجزء الصغير من "أرض إسرائيل"!

وحتى يَقَع كلامه على أسماع إسرائيلية تشبه سمعه "اعتذر" أوباما إلى الإسرائيليين عن عبارة زلَّ بها لسانه من قَبْل (في خطاب ألقاه في القاهرة سنة 2009) واعتدوها إساءة إليهم؛ وكانت العبارة "شرعية إسرائيل مستمدَّة من المحرقة (النازية)"؛ وإنِّي لأتساءل مع الإسرائيليين في دهشة واستغراب قائلاً: كيف لهذا الرجل أنْ ينسى، أو يتناسى، أنَّ شرعية إسرائيل مستمدَّة مِمَّا هو أعظم بكثيرٍ من "المحرقة (الهولوكست)"، ألا وهو أُسطورة "لنسلك أعطي هذه الأرض.."؟!

أوباما عاد إليه العقل والرشد في ولايته الثانية والأخيرة، فقال لهم (معتذراً إليهم عن "عبارته المسيئة المشينة"): هنا، في أرضكم القديمة، أقول إنَّ وجود دولة إسرائيل لم يكن ثمرة المحرقة؛ لكنه سيمنع لا محالة محرقة جديدة (يُدبِّرها لكم "نازيون جُدُد"). إنَّني أرى الشمس تشرق في القدس العاصمة التاريخية للشعب اليهودي.

وكأنَّ هذا "الاعتذار" لم يُرْضِهِم تماماً؛ فَدَعوا أوباما إلى أنْ يأتي بـ "برهانه" إنْ كان صادقاً؛ فأتى به إذْ أبى زيارة ضريح الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، وكأنَّ هتلر هو الذي يرقد هنا؛ وأحسب أنَّ الفلسطينيين لن يلوموا أوباما؛ فهو، والحقُّ يُقال، أضاف عَظَمَةً إلى عَظَمة الضريح وصاحبه إذْ أحجم عن زيارته!

وبعد كل هذا الذي "أنجزه" أوباما في سعيه إلى إحلال "السلام"، خاطب العرب (الذين سيجتمعون عمَّا قريب على مستوى القمة في الدوحة) قائلاً: لقد حان للعالم العربي أنْ يبدأ تطبيع العلاقة مع إسرائيل (التي أعطت، وأعطت، للفلسطينيين والعرب، حتى فَرَغَت يداها).

"لقد حان للعالم العربي.."؛ أمَّا أنْ يقول "لقد حان لإسرائيل أنْ تنهي احتلالها.."، فهذا قول لا يقوله إلاَّ "هتلر الرَّجيم"؛ لأنَّ فيه من المعاني ما يَصْلُح للتحضير لـ "محرقة ثانية"، كفى الله "الشعب اليهودي" شَرَّها!

وأمام عباس برز أوباما في ثياب "الواعِظ" و"المُبْدِع (في صناعة الحلول)" معاً؛ فَلِمَ هذا الإصرار "غير الذكي" على وقف النشاط الاستيطاني قبل، ومن أجل، العودة إلى طاولة المفاوضات؟!

على عباس أنْ يتخلَّى عن هذا "الشرط (غير الذكي)"، وأنْ يشرع يفاوِض نتنياهو في أمرين اثنين: "أمن إسرائيل" و"السيادة الفلسطينية". لو أخذ عباس بهذه النصيحة (التي تفيض ذكاءً برغماتياً) لاكتشف أنْ ليس ثمَّة مشكلة تسمَّى "الاستيطان"؛ لأنَّ "مقايضة السيادة بالأمن" ستُتَرْجَم بضمِّ المستوطنين ومستوطناتهم إلى إسرائيل؛ فـ "إِلامَ الخُلفُ بَينَكُمُ إِلاما وَهَذي الضَجَّةُ الكُبرى عَلاما"؟!

العرب اليوم