بكلمات حاسمة، وفيها الكثير من الغضب، تحدّى ملك الأردن، عبدالله الثاني، الحليف الأميركي، معلناً رفضه القاطع الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على القدس، وتداعيات "صفقة القرن" على بلاده من توطينٍ للاجئين الفلسطينيين، وهي سيناريوهاتٌ تعبر عن كابوسٍ مخيف، يلاحق الأردنيين في أن تكون تصفية الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني هي أيضا تصفية للدولة والكينونة السياسية الأردنية. "القدس خطٌّ أحمر.. لا للتوطين.. لا للوطن البديل" لاءات ثلاث وضعها الملك، تمثل سابقةً في تاريخه، من المتوقع أن تكلفه غاليا عند إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي لا يقبل مجرّد فكرة عدم الانصياع الكامل لمخططاته، أو حتى رغباته.
وتتطلب هذه اللاءات تحولاً كاملا في السياسة الأردنية، الخارجية والداخلية. ولكن موقف الملك، على الرغم من صراحته، لم يجد الوقع المطلوب في أوساط من الشعب الأردني، نتيجة ضعف الثقة (أو عدمها) في أي موقفٍ رسمي، وخصوصا أن هناك مشاريع اقتصادية مشتركة مع الدولة الصهيونية، ولم يجر حتى تجميدها.
مشهد حديث الملك وما تخللته، وما تبعته، من هفواتٍ وأخطاء، أضعف التجاوب مع الإعلان الخطير في أبعاده، فالملك العائد من زيارة عمل إلى واشنطن لم يجد فيها آذاناً صاغية لمخاوف الأردن واعتراضاته، قرّر أن يجهر بمعارضته السياسة الأميركية.
ولكن بدلا من التركيز على دعوة شعبه إلى الالتفاف حوله، وحول الدولة، في مواجهة "صفقة القرن"، طغى مزيج من الخوف والشك، مع معارك جانبية بين القصر والدولة، لدى شخصياتٍ انقلبت على القصر، على الرغم من أهمية اللحظة، ما ترك أغلب الأردنيين في حالة حيرةٍ من مضمون رسالة الملك.
هناك شعورٌ واسعٌ عند غالبية الأردنيين بضرورة حماية الأردن في مواجهة الخطوات الأميركية، وفي الوقت نفسه، هناك حاجة إلى حديث مكاشفة مع الشعب الأردني، فالمطلوب هو إعادة الثقة بالداخل، والابتعاد عن أي انفعالاتٍ علنيةٍ وعمليةٍ، مهما بلغت من الاستفزازات المشكّكة بالملك وبمواقفه، كما يراها هو من معارضين ومسؤولين، فالمرحلة لا تتحمّل رسائل ملتبسة ومتناقصة، سواء من القصر أو المسؤولين، فالمواطن الأردني يشعر بالضياع، ويرزح تحت ثقل أزمة اقتصادية، ولا يرى مؤشراً على تحسن وضعه المعيشي في المستقبل المنظور، واللهجة الانفعالية التي تحدّث الملك بها عن بعض "المشككين"، شوشّت على إعلانه أنه لن يغير موقفه بشأن القدس، ولن يرضخ لخطة تُفرَض عليه، وعلى الأردن، وكأن الأردن لا رأي له بمستقبله ومصيره.
ففي خطوةٍ غير موفقة، هاجم من اعتبرهم يشكّكون بصدقيته، واتجهت عيناه إلى قيادات في الأمن كانت حاضرة، قائلا إنه يعرف تماما من هم هؤلاء، في مشهدٍ أثار استفزاز كثيرين، وأحدث انطباعا لدى الحراك الأردني، والأحزاب السياسية المعارضة، أن كلام الملك يحمل، في طياته، تهديدا ينبئ بحملة إعتقالات، وحتى فرض أحكام الطوارئ على البلاد، فحتى لو كان الملك قد قصد مجموعةً معينةً من المسؤولين السابقين والمتقاعدين العسكريين انضمت إلى احتجاجات الدوار الرابع (في جبل عمان حيث مقر رئاسة الحكومة) الأسبوعية ويعتقد القصر أنها تركب الموجة، لتحقيق مآرب شخصية، وابتزاز القصر لتحقيقها، فإن ردة الفعل على حديث الملك كانت عكسية.
وجاء اتهام المدير العام لقوات الدرك، اللواء حسين حواتمة، المتقاعدين العسكريين من الرتب العالية، والذين أعلنوا معارضتهم، بالسعي نحو مكاسب شخصية، أو التبعية لجهات خارجية، ليزيد الشكوك بأن الأردن مقبل على مرحلة حلول أمنية لإسكات المعارضة ومنع المظاهرات. وإذا صح كلام قائد الدرك الذي قد ينطبق على أفراد بعينهم، فلماذا يجري زج الشعب الأردني في معركةٍ بين القصر وأي من هؤلاء؟ فقد تتوسع مثل هذه التهم، لتشمل كل فئات المجتمع، إن عارضت بالكلمة أو بالفعل، وتضعف من موقف الدولة الأردنية، وسط واقع عربي مهلهل، لا يستطيع الملك فيه الاعتماد على دعم حلفائه التقليديين، وسط معلوماتٍ تردّدها الصحافة الإسرائيلية بأن تل أبيب قد تقبل السعودية شريكا أو بديلا للأردن بالوصاية على المقدسات الإسلامية في القدس، المقصود منها ضربة مباشرة للملك عبدالله الثاني الذي يعتبر هذا الوصاية من أهم أركان الشرعية الهاشمية.
يبدو أن الملك عبدالله الثاني في مرحلة جمع أدواتٍ لتخفيف الضغط الأميركي عليه وتقييمها؛ وهو يتحرّك للوصول إلى تفاهمات عربية خاصة مع السعودية، وقد أوفد رئيس الوزراء، عمر الرزاز، إلى الرياض، حيث التقى الملك سلمان، حتى لا تنجر السعودية، بتأثير من ولي العهد محمد بن سلمان، إلى التماهي مع الموقف الأميركي، ولو ضمنياً. وسافر العاهل الأردني إلى المغرب، والتقى الملك محمد السادس، لأهمية موقف الرباط، بوصفها رئيسة للجنة القدس المنبثقة من منظمة المؤتمر الإسلامي، أملاً بدعم الموقف الأردني الذي يحظى بتأييد السلطة الوطنية الفلسطينية، وبأن تتخذ القمة العربية التي تنعقد اليوم الأحد في تونس موقفاً جماعيا واضحا بشأن القدس.
ولكن من غير المفهوم كيف لا يستعمل القصر أدواتٍ في غاية الأهمية، لمواجهة معركةٍ فرضتها الإدارة الأميركية بشأن القدس والقضية الفلسطينية، فإصرار الحكومة الأردنية على أنه ليس من صلاحية مجلس النواب التصديق على اتفاقية استيراد الغاز مع الحكومة الصهيونية أو رفضها، فيما الاتفاقية قيد التنفيذ، وما تلا ذلك من تحويل هذه القضية إلى المحكمة الدستورية،
تفريطٌ بوسيلةٍ مهمةٍ تتيح للأردن إيصال رسالة واضحة إلى الإدارة الأميركية وإسرائيل، وهدر فرصة تجميد (أو وقف) العمل بالاتفاقية التي تربط حاجة الأردن من الغاز الطبيعي بالإرادة الإسرائيلية. فبعد أن صوت مجلس النوب ضد الاتفاقية، معتبرا أن الغاز منهوب من الفلسطينيين، أحالت الحكومة الموضوع إلى المحكمة الدستورية بسؤال ملغوم، ويجافي الحقيقة بشأن صلاحية مجلس النواب بالتصويت على اتفاقيةٍ "بين شركتين"، أميركية وأردنية، علما أن شركة الكهرباء الوطنية مملوكة للحكومة، مما يجعل توقيعها يمثل الحكومة، وأن الطرف الثاني هو شركتا "نوبل إنيرجي" و"ديليك" الإسرائيلية اللتان دخلتا الاتفاقية بقرار حكومي رسمي وعلني، ولا مجال لإنكار ذلك.
هناك تمييع حكومي لمسألة إستراتيجية، بتجاهل أن المادة 33 من الدستور الأردني تشترط أن أي اتفاقية أو معاهدة "تمسّ حقوق الأردنيين العامة، أو الخاصة، لا تكون نافذةً، إلا إذا وافق عليها مجلس الأمة"، لكن الحكومة لجأت إلى التسويف ومحاولة استباق رأي المحكمة بتعريف ماهية السؤال، ما ينسف مصداقية الموقف الأردني الذي أعلنه الملك، ويضعه في خانة المناورة وشراء الوقت، لكنه تكتيك يجانب الذكاء، إذ لا بد من ربط أي مناورة كانت برؤية استراتيجية. والمقلق أن القصر لا يعي مدى أهمية كل خطوة على استعادة المصداقية. ويبدو أن القصر لا يعي أيضا حساسية مخاطبة الشعب الأردني. مع هذا، هناك فرصة تاريخية للملك لقيادة مواجهة ضد "صفقة القرن"، ففلسطين والقدس ورفض اتفاقية الغاز قضايا تجمع الأردنيين، وكان ذلك واضحا في الاحتجاج الأسبوعي (الدوار الرابع)، أخيرا، والذي اجتذب أعدادا أكبر من المعتاد، ومرشحة للازدياد. وإذا كان ذلك دليل وعي جمعي، بخطر صفقة القرن وإسرائيل، فكلمة السر، مرة أخرى، هي استعادة الثقة، وعدم اللجوء الى أي حلول أمنية قد تطيح ما تبقى من ثقةٍ لدى الشعب بتوجهات النظام.