كيف قضت الدولة على حزبها؟
منذ خمسينيات القرن الماضي، أسّست الدولة الأردنية معاهد دور المعلّمين في الضفتين الشرقية والغربية بغية تأهيل خرّيجيين من كل التخصّصات التعليمية، في مرحلة شهدت توسعاً كبيراً في تشييد المدارس في معظم الأرياف.
اتكأ المشروع الطموح على خبرات وكفاءات نالت شهاداتها من جامعات الجوار (في عهد ازدهارها)، إضافة إلى بعض النخب التي درست في معاهد الغرب وجامعاته، وانطلقت دورة حياة جديدة من معهد المعلمات في رام الله، ومعاهد المعلمين في بيت حنينا (القدس)، وفي حوارة (إربد)، والعروب (الخليل)، ودار المعلمين في عمّان، ومعهد الحسين الزراعي (خضوري) في طولكرم، الذي أنشئ زمن الاستعمار البريطاني، وجرى تأسيس معاهد زراعية على غراره في الشوبك والكرك لاحقاً. في غضون سنوات قليلة،
قدّمت هذه المعاهد نخبة من المدرّسين ضمن رؤية رسمية انتهجت أن يبتدئ خريجو معاهد الضفة الغربية خدمتهم في التدريس شرق النهر، والعكس أيضاً، واهتمت الخطط الدراسية بتخريج مرشدين زراعيين في بلد كان اقتصاده الناشئ يعتمد على الزراعة أساساً، ومرشدين اجتماعيين، كما اعتنت بالرعاية الصحية (حيث كان وزارة الصحة في بداياتها).
تُروى العديد من الروايات حول استقلالية القائمين على هذه المعاهد، ورفضهم أي تدخل رسمي أو تحت ذريعة المحافظة والتديّن في شئون تدريسهم وإدارتهم التي تتبع وزارة التربية والتعليم (أوجدت وزارة التعليم العالي في الثمانينات)، ومنها عدم رضوح د. سليم الناشف عميد كلية معهد الحسين الزراعي (كان الوحيد من بين مدراء المعاهد الذي يحظى بلقب عميد كلية) لجملة تدخلات من قِبل رئيس قسم المناهج في (التربية) إسحق الفرحان (المنتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين)، وباءت محاولات الأخير بالفشل.
تميّز غالبية خريجي هذه المعاهد بالجديّة والالتزام والانضباط، وربما أضفنا إليها قوة الشخصية والحضورالاجتماعي البارز، بالنظر إلى كونهم أكثر موظفي الدولة احتكاكاً وصلة مع المجتمع، ورغم الانتقادات المعروفة لقصور بعض المناهج الدراسية ولجوئهم إلى الضرب، حينها، إلاّ أنهم ربوّا أجيالاً على منظومة قيم مشتركة تؤمن بالتحديث، ودور العلم والأخلاق في نهوض المجتمعات، وسيادة القانون، وليست مبالغة القول إنهم آمنوا بدولة مدنية وإن كانت سلوكياتهم في هذا السياق غير ناضجة إلى حد ما.
ثمّة مسألة يجدر الإشارة إليها، وهي عدم تسييس الجزء الأكبر من هذا الجيل، فكانوا موالين للنظام ومبشرّين برؤاه في البناء والتطوير، ويمكن وصفهم بـ”حزب الدولة” الذي أقنع فئات واسعة من الشعب بمشروع الدولة الأردنية الحديثة من دون تسويغ قناعاتهم بأي تنظير سياسي، إنما كان تفانيهم وإخلاصهم هو المؤشر الرئيس إلى ذلك. لم يتكلف هذا "الحزب" عناء الإشادة ببطولات النظام والتطبيل له، وكان أعضاؤه يكتفون بالتنويه إلى يومي الاستقلال والكرامة تحديداً بكلمة أو كلمتين تلقيان في الإذاعة المدرسية، وبالطبع ليس من بين هذه الاحتفاءات الرمزية ما يخص عيد ميلاد ملك أو أمير، ولم يتطلب الأمر فرض منهاج للتربية الوطنية، إذا حمل تشجير الطلاب لحديقة مدرستهم أو تنظيف المقبرة أو دهان أرصفة الشوارع معانيا أسمى وأرفع.
"حزب الدولة" حرّض الطلبة على مدى ثلاثين عاماً تقريباً على تلوين جدران مدارسهم بأعلام البلدان العربية، وتصوير طبيعة وطنهم ورسومات لمواطنين يقرأون أو يزرعون أو يبنون أو يوجهون تحية للعلم، ولم يوجّهوا أحداً لرسم صورة زعيم أو قائد سياسي.
مع نهاية السبعينيات، توّسعت دور المعلمين لتقبل طلاباً بمستويات أضعف، وأصبحت تركّز على الكم لا النوع، ومن تلقى تعليمه الأساسي في الثمانينيات ومطلع التسعينيات فإنه يتذكر أولئك المدرسين الجدد الذين لم يستطيعوا بمعرفة أحدث تلقوها في معاهدهم، وحتى جامعاتهم، أن يسدوا مكان القدامى الذي بدأوا يصلون تباعاً إلى سن التقاعد. بالطبع ثمة عوامل أخرى لانحطاط مستوى التعليم ليست موضوع هذا المقال.
انفرط "حزب الدولة" بعد تقاعد جميع المنتمين إليه مطلع الألفية الجديدة وانتهى معه عهد بأكمله. فقد شهدنا انهياراً تدريجياً في التعليم رافقه فرض الاحتفالات بالأعياد الوطنية على مدارس المملكة، وتحشيد تلامذتها للمشاركة في احتفالات أوسع تقام في العاصمة كل عام، وتسّربت إلى مدارسنا جميع الأغاني “الوطنية” الهابطة والركيكة التي صُنّعت في السنوات الأخيرة، ورغم هذه المظاهر الشكلية ووجود مدرّسين يتزلفون للسلطة، ليل نهار، إلاّ أن ذلك كلّه أصابنا بالشك والإحباط تجاه مسيرة التحديث والبناء التي أُطلقت قبل نصف قرن وآلت إلى أن تصفّيَ الدولة حزبها الأصيل وتتحوّل إلى شركة تتملكها زمرة من الفاسدين والمنتفعين.
محمود منير: كاتب صحافي. محرر “تكوين” في “عمّان نت”.