قانون لانتخابات نيابية (أخلاقية)
إنما النيابة أخلاق..; ويراد لها, على ما يبدو, أن تكون أخلاقا فحسب; وكفاها الله شر السياسة; فالقانون الانتخابي الجديد (المؤقت) سيؤسس, هذه المرة, لانتخابات نيابية أخلاقية, قد يظهر فيها, ويتأكد, أن طرفيها (المرشح والناخب) صَلُحا أخلاقيا, فنحظى, بالتالي, ببرلمان على خلق عظيم, تزهد فيه النيابة عن السياسة, ويعلو فيها منسوب ما يشبه الكهانة, وكأن الإصلاح الأخلاقي الذي لا يخالطه إصلاح سياسي (حقيقي) هو الغاية التي ننشد!
ولقد صدَّقنا أكذوبة "إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا", فاستبدت بعقولنا فكرة أن إصلاح حياتنا البرلمانية يبدأ بالإصلاح الأخلاقي للنائب, ضاربين صفحا عن حقيقة أن البرلمان المُصْلَح سياسيا هو البرلمان الصالح, أو الذي يمكن أن يكون صالحا, أخلاقيا.
ربما نرى نوابا في البرلمان المقبل يمثلون الفضيلة, فازوا بمقاعدهم البرلمانية من غير طريق الرذيلة, نبذوا ثلاثية "الراشي والمرتشي والرائش", لم يسعوا في شراء الأصوات والذمم, ولا في تأليف قلوب الناخبين الفقراء بالمال السياسي وأشباهه من الرذائل, ارتضوا النيابة تكليفا لا تشريفا, ونزهوها عن الراتب والوظيفة, وفهموها على أنها جزء من الحياة الدنيا "وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور", فابتغوا مرضاة الشعب, ولم يبتغوا "حلية أو متاع زبد مثله".
ولكن, ما نفعهم إذا ما جاءوا إلى برلمان هو من الوجهة السياسية الصرف لا لون له, ولا طعم, ولا رائحة?!
وكيف للبرلمان أن يكون بخواص سياسية, يمثل الشعب تمثيلا سياسيا, وينتمي, بالتالي, إلى السياسة في عالمها الواقعي الحقيقي, إذا ما كان, أو ظل, الفرد هو محور الحياة السياسية والبرلمانية, وكأن السياسة نشاط يمكن أن يؤديه (وعلى خير وجه) روبنسون كروزو المنعزل في جزيرة "الموات الحزبي"?!
ليس بالفرد نحقق تنمية سياسية, تحيي في المجتمع والمواطنين الدافع (أو الحافز) السياسي, وتنطق الأكثرية الصامتة, وتنهي سلبيتها السياسية, وتوقظنا من نومنا السياسي الطويل.
ولا شك في أن إطلاق يد الحزبية السياسية في حياتنا السياسية هو الخطوة الأولى والكبرى التي ينبغي لنا أن نخطوها, الآن, أي منذ سنين, على الطريق المؤدية إلى مثل هذه التنمية السياسية, فالتمثيل الفردي, الذي هو ضد نشوء وتطور المؤسسة في نظام حياتنا السياسية والديمقراطية, حان له أن ينتهي, لينتهي معه كل هذا الموروث الاجتماعي السياسي المضاد, في طبعه وطبيعته, للتطور الديمقراطي لمجتمعنا.
الفرد الذي بصفة كونه ناخبا فحسب هو وحده الذي يحق له الوجود في حياتنا السياسية. أما المرشح فهو الكيان السياسي, أي الحزب السياسي, بأفراده (المنتخَبين حزبيا) وبرنامجه السياسي.
الفرد, مرشحا, هو الذي أصاب حياتنا السياسية والانتخابية والبرلمانية بالعفونة والركود والقصور; ولا بد للتنمية السياسية من أن تشمله, أي لا بد له من أن يزاول النشاط, أو العمل, السياسي من خلال جماعة سياسية منظَّمة, فالخدمة العامة لن تغدو "خدمة" في معناها الحقيقي و"عامة" في معناها الحقيقي إلا إذا أداها الفرد عبر المؤسسة (السياسية الحزبية) فمشكلاتنا لا حل لها بجهود ووعي وثقافة وخبرة وموهبة فرد ولو رأى أن لديه أفقا يسع كل شيء ولا يسعه شيء!
على هذا الفرد, قبل أن يستوي إلى الخدمة العامة, في البرلمان وغيره, وقبل أن يستوي على كرسي الخدمة العامة, أن يتحول إلى كائن سياسي, في معناه الديمقراطي والحضاري. وليس من سبيل له إلى ذلك سوى الدخول في الحياة السياسية الحزبية, التي ينبغي لها أن تملك من الحياة ومقوماتها ما يسمح لها بأن تحيي عظام مجتمعنا السياسية وهي رميم. نحن, الآن, لدينا أحزاب لا تحتاج إلى المجتمع, ولدينا مجتمع لا يحتاج إلى الأحزاب, أي لدينا مرض سياسي (ديمقراطي) عضال.
وإذا كان من سؤال ينبغي لنا إجابته فإن هذا السؤال هو: كيف نخلق تلك البيئة السياسية القانونية, التي فيها يصبح ممكنا قيام أحزاب سياسية تحتاج إلى المجتمع, وقيام مجتمع يحتاج إلى الأحزاب السياسية.
الناس يحتاجون إلى السياسة مثل حاجتهم إلى رغيف الخبز. ولكنهم لا يحتاجون إليها, ولسوف يظلون عازفين عنها, إذا هي ظلت, في خبرتهم واختبارهم, أداة ضد التغيير الذي يريدون, والذي يلبي احتياجاتهم الواقعية (لا الوهمية) ويحل المشكلات بما يتفق مع المصالح العامة لا المصالح الفردية والفئوية الضيقة.
وكيف للأحزاب عندنا أن تكبر وتنمو وتتطور إذا كان أقلها وزنا يزن سياسيا أكثر من المجتمع, الذي توفروا على إقناعه بأن للسياسة أربابها, وبأن السياسة رجس من عمل الشيطان يجب اجتنابه, وبأنها لا تطعم خبز ولا تسمن ولا تغني من جوع, وبأن الندامة في الرغبة فيها, والسلامة في الرغبة عنها?!
القانون الانتخابي الجديد إنما يَصْلُح لما يشبه "التهريب الحزبي", فإن شيئا من الحزبية السياسية يمكن, في الانتخابات النيابية المقبلة, أن يُنْقَل إلى البرلمان عبر أفراد يشبهون المغناطيس لجهة قدرتهم على اجتذاب الأصوات; أما النتيجة المترتبة على هذا التهريب الحزبي فهي النائب الحزبي الأكبر من حزبه (أو من الحزب الذي أيده وسانده) والذي يشتد لديه الميل إلى الانشقاق الحزبي!
وهذا النائب الحزبي يكفي أن يجلس على مقعده البرلماني, الذي فاز به, ملحقا خسائر بالحياة الحزبية, حتى نراه يتشبه بزملائه من النواب اللا حزبيين, فتتضاءل فيه صفة التمثيل السياسي, وكأن على الجزء, وهو النائب, أن يشبه الكل, وهو البرلمان, لجهة ضآلة صفة التمثيل السياسي.
ثم يكتشف هذا النائب أهمية وضرورة "الصداقة" مع الوزير, ومع سائر ممثلي السلطة التنفيذية, فالخدمة العامة التي يرغب في تأديتها إنما هي من النمط الذي يُلْزِمه أن يكون على علاقة حسنة بالوزير.