في مستهلّ فصل قارس
هل سيطول هذا العذاب الذي نعيش فيه، حيث الرجال والنساء محاصرون بالقتل والقهر في كلّ نشرات الأخبار، وهل حقّاً سنقضي عمرنا الوحيد في هذا الشرق في زمن يملكه الآخرون، الذين تتردّى نوعيّتهم حقبة فحقبة؟!
كنّا نشكو منذ سنوات ثلاث أو أربع فقط من التفسير الذكوريّ للنصّ المقدّس، البراغماتيّ الذي يتنافى غالباً مع المنطق، بتنا اليوم نشكو من التفسير الواحديّ والجاهل واللصوصيّ للنصّ ذاته، والذي يقضي بالقتل الجماعيّ، وتشترك فيه سلطة سياسية وأخرى ثقافيّة عادتا للاتحاد بعدما انفصلتا ردحاً من الزمن، لكنّه اتحاد بشع وظلاميّ. أسئلة الواقع تشتبك كلّ مرّة مع حقولنا المعرفيّة لتنتجنا من جديد، بحيث تلتحم خيوط كلّ ما حولنا لتصاغ مخرجات فكريّة جديدة، غير بعيدة بالنسبة إليّ عن عالم الإبداع.
لم أستطع رؤية المرأة في عالمنا العربيّ شاعرة، وكنت أعزو ذلك لفقدان النموذج المقنع، لكنّي اكتشفت فيما بعد أسباباً أخرى، ربّما مثلاً أنّني لم أتخلّص تماماً من نمطيّة فكريّة موروثة، وربّما لأنّ محاولاتي الشعريّة الأولى التي قد أشترك فيها مع معظم من حاولوا الكتابة لم تكن بالمستوى المطلوب، لكن الأهمّ هو أنّ شخصيّة الشاعرة فريدة ومستفِزّة، فهي قويّة حدّ العصيان، وأجرأ على المواجهة واحتمال عواقبها، مواجهة الذات والعالم، في حين نتخفّى نحن الروائيّات وراء شخصيّات كثيرة وقصص غريبة أحياناً، فقط لنبدو منطقيّات وأحياناً حياديّات. الشاعرات يواجهن عالماً ما زال صوتهنّ فيه معصية، وذلك بالأنا التي تحملها اللّغة، بلا دروع حكائيّة واقية، بل يتنطّعن لامتلاك مشاعر الآخرين وينسبنها لهنّ على عكسنا تماماً.
ما يربط هذا باللحظة الراهنة هو الحراك السياسيّ الإيرانيّ الذي أسهم في قسمة المواقف في المنطقة العربيّة عبر التاريخ، وذكرى ولادة الشاعرة الإيرانيّة فُروغ فُرُّخ زاد، والذي يصادف اليوم الخامس من كانون الثاني، والتي أدين لمعرفتي الأولى بها لصديقتي الدكتورة علياء الداية، أستاذة الأدب الحديث في قسم اللّغة العربيّة في جامعة حلب، عبر ترجمتها لديوان "تمرّد" في 2009، إذ جعلتني أبحث أكثر فأكثر في تفاصيل تقلّباتها وشعرها الذي يمثّل رواية إيران الأخرى.
حياة هذه المرأة الشاعرة قصيرة، وغنيّة، فهي ابنة لجنرال عواطفه ضنينة، وأمّ مثل كل أمهات ذلك الوقت، طيّبة تصدّق كلّ شيء، وترهق أولادها بالتقاليد.عاشت فُروغ مرحلة حداثة قصيرة في إيران، باذخة، ومفعمة بالحروب وصراعات الهويّة، والتراث والحداثة، قبل أن تحسم لصالح الثورة الإسلاميّة، حيث ستبقى حياة شرقيّة بائسة، تشبه حياتنا كثيراً في وصمة الشرق، والاستعمار، والتبعيّات وفقدان حريّة الفرد. ليس في تلك الحياة سوى ضوء الطفولة، حيث نمتلك حريّة ما قبل الأنوثة، وما قبل الفكر، وما قبل الوعي، وما قبل الإيديولوجيا، إنّها حريّة المراقبة حيث لا يُتحفّظ منّا، لذا كانت فروغ تنطلق من مخزنها، من رائحة البيت، والعصافير، وصندوق الملابس الذي تتناوب عليه الفصول، ولعلّها تشبه هنا كثيرات منّا ممن عقدن صداقة مع فرجينيا وولف في عزلتها وهستيريّتها وعلاقتها بالعائلة: فتيات يتسلقن الأبواب ويجلسن على قمم الأشجار، ثمّ ينزوين في غرفة، يستسلمن لكآبة مجهولة المصدر، ويجهشن بالبكاء لأتفه الأسباب:
ياسنّ السابعة/ يا لحظة الانطلاق المدهشة/ كلّ ما مضى بعدك، مضى في فيض من الجنون والجهل...
يأتي الرجل بعد ذلك لتهرب فُروغ من قسوة الأبوّة التقليديّة إلى قسوة العاديّة التي تكبّل أرواح المبدعات، إذ تزوّجت في السادسة عشرة، بحثاً عن الرعاية المفقودة كما يبدو من قصّة حياتها، وبعد عام نشرت مجموعتها الشعريّة الأولى "الأسيرة" 1952، ورحلت مع زوجها إلى الأهواز 1953:
مدينة على ساحل ذلك النهر المتلاطم/ نخيلها متداخل ولياليها زاخرة بالنور/ مدينة على ساحل ذلك النهر/ وقلبي رهين هناك/ بين أصابع رجل مفعم بالكبرياء...
كان من الطبيعيّ لمثلها أن تنفصل عن زوجها حتّى لا تموت بداء مخالفة الفطرة، لتقع في مشكلة المرأة التاريخيّة، وهي الحرمان من حضانة طفلها، الذي منحها بؤرة جديدة للكتابة حيث طفل حزين، وحبل عدالة رخو:
عندما كان أملي معلّقاً بحبل العدالة الرخو/ وفي كلّ المدينة كانوا يمزّقون جوف مصابيحي/ عندما كانوا يعصبون عيون حبّي الطفوليّة/ يغطّونها بخرقة القانون المعتمة/ تفور أصداغ أمنيتي المضطربة/ تنزف نوافير الدم تصبّ في الخارج/ لم يك ثمّة شيء، لا شيء سوى دقّات ساعة حائط/ أدركت أنّه: لابدّ، لابدّ، لابدّ/ أن أحبّ حبّاً جنونيّاً...
إذا كانت النساء في عذاباتهنّ ذريّة بعضها من بعض، فإنّ حياة فُروغ فُرُّخ زاد مثل حياة أيّة امرأة شرقيّة مع امتياز امتلاك القدرة على التعبير والمواجهة، التي عزّزتها بتجربة سينمائيّة خاصّة. فروغ لم تُرجم، ماتت قبل عهد الرجم، لكن حينما ماتت لم يجرؤ أحد على أن يؤمّ صلاة جنازتها في مجتمع منافق، إلى أن أقبل أحد الشجعان وهو الناقد مهر داد صمدي وقام بذلك! "في مستهلّ فصل قارس" هو عنوان الديوان الذي جمعت فيه قصائدها (1935- 1967) بعد وفاتها المفجعة في حادث سير في طهران، وهي في الثانية والثلاثين من العمر.
د. شهلا العجيلي: روائيّة، وأكاديميّة، أستاذة الأدب العربيّ الحديث في الجامعة الأميركيّة في مادبا. لها في الرواية “عين الهرّ” الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية 2009، و”سجّاد عجميّ”، و”سماءٌ قريبة من بيتنا”.