في مدح المديح

في مدح المديح

 

 

 

كان للكلمة المطبوعة، وبالتالي المنشورة في الصحف والمجلات وغيرها من مطبوعات يتداولها الجمهور القارئ، وقعها الخاصّ. وقعها المؤثِّر إنْ كان سلباً، بالاعتراض على ما تضمنته تلك الكتابة، أو إيجاباً بالموافقة. غير أنّ المحصلة ظلّت هي هي: التقدير لِما يُكتب منشوراً في وسائل الإعلام، باعتباره أحد تمثيلات الرأي الشخصي في شأنٍ عام. إضافة إلى حقيقة ثبات ما يتجاوز ما سبق دون أن يلغيه؛ ألْا وهي ديمومة التفاعل. وللتدليل على ذلك، كثيراً ما كنتُ أفاجأ بسؤال من بسطاء معارفي القدماء، حين يلتقوني مصادفة: كم تدفع للجريدة كي تنشر كتاباتك؟

 

هذا السؤال في حد ذاته، وإذا ما تأملنا طبيعة الاعتقاد الذي أنتجه لدى الذين يطرحونه، فلسوف نخرج بواقع المسافة الفاصلة بين الكلمة المكتوبة في حالة طباعتها ونشرها، وبين قُرّائها. مسافة تختلط فيها درجات متفاوتة من التوقير، والاحترام، والحذر، والإجلال، والنظر إلى المادة المنشورة نظرة جدية، حتّى وإنْ كانت ملتبسة المعنى.

 

كان للكلمة ثقلها الكبير ووقتها الطويل عند كتابتها، سببهما المسؤولية التي يحسّ بها كاتبها/ كاتبتها. وكانت خطوة إرسالها للنشر في الصحيفة أو المجلة تصاحبها "رهبةٌ ما"، دافعها التوجس من تقييم المحرر بعد قراءته لها، والقلق إذا ما سيوافق على نشرها. أما الحالة الثالثة فهي الأهمّ: ماذا ستكون عليه ردود فعل مَن يقرأها مِن الأصدقاء والزملاء الذين نتحرك و"نتفاعل" معاً، أشخاصاً ونصوصاً! ماذا سيقولون لنا حين نلتقي، وجهاً لوجه، وبأيّ نقد وانطباعات سيخرجون، إلخ.

 

كلّ ذلك وأكثر: هل نملك ما نكتبه، بعد الآن؟ ثم يتصاعد الأمر ليصل إلى: هل نجرؤ على النشر من جديد، لو أنّ ما نشرناه أخيراً لم يُستَجَب له كما نرغب؟ هل نُصاب بالإحباط فنكفّ عن الكتابة؟ أو على الأقلّ، نتوقف عن النشر؟ وهكذا إلى بقية سلسلة التحسبات والحسابات و"رُعب" الكتابات القادمة!

 

كان هذا واقع الكتّاب قبل ثلاثين، خمس وعشرين، عشرين، عشر سنين. كان هذا قبل تفشي ظاهرة المواقع الإلكترونية ذات التوجهات الثقافية والأدبية. وقبل أن يفتتح بعض الكتّاب لأنفسهم مجلاتهم وصحفهم الشخصية المُسمّاة "مدونات"، ناقلين تجارب الملاحق الثقافية في الصحف الورقية على نحوٍ منسوخ.. وغالباً ما تكون أقلّ قيمة موضوعياً، وأكثر شخصنةً ذاتياً كونها خاضعة لأحكام صاحبها/ محررها، ومزاجه، وهواه، وحساباته، وشبكة علاقاته المتسمة بالبُعد النفعي الانتفاعي!

 

غير أنّ غياب وأفول محمولات كلّ من: الرهبة، والرعب، وأثقال مسؤولية الكلمة قبل كتابتها وبعد نشرها؛ إنما جاء إثر التتويج الذهبي لوسائل "التواصل الاجتماعي" المتمثّل في "الفيس بوك"!فعلى الحسابات الشخصية، وداخل الصفحات الخاصّة، اكتملت مواصفات "الكلمة الجديدة"، المكتسحة "بخفتها غير المحتملة" فضاءَ التواصل، كمفهومٍ مُسِخ جوهره ولم يبقَ منه سوى المديح المجَّاني والمجاملة البلهاء الخادعة المتمثّلة في خانة like، وكممارسة مُسطَّحَة ومُسطِّحة لمعنى التفاعل لا يتجلّى سوى بمزيد من جديد الصور الفوتوغرافية الملتقطة – إنْ كانت شخصية، أو جَماعية، أو عائلية، أو "بوزات" مفبركة بابتسامات تحتلّ وجوه "السيلفي" المضحكة!

 

ألبومات ملونة تصخب بكلّ شيء، ولا شيء يصخب إلّا كلمات من زَبَد!

كلمات "تحررت" من رقابة ورهبة محاسبة الذات والآخر؛ فانطلقت لا يردعها رقيب من ضمير أدبيّ ناقد. وبذلك بات أصحابها، كتّاباً وكاتبات، "يأكلون الجو" الأثيريّ خبزاً وهمياً ما إنْ يغادروا شاشة كومبيوتراتهم، أو هواتفهم الذكية، حتى يرتدّوا إليها: فهناك "كلمة جديدة" تُضاف الآن الآن: قد تكون "رائع"، "جميل"، "كعادتك مبدعة"، "يا للتألق"،إلخ. لكنّ هذا لا يكفي لسدّ جوعهم. فما دام خبزهم وهمٌ خالص؛ فإنّ شَبَعهم كذبٌ محض، لأن جوعهم مَرَضٌ مستفحل وإدمانٌ مُزمن!

 

إنها "الكلمة الجديدة". الكلمة الخفيفة، النظيفة، البريئة تماماً من أي محمولٍ سوى ركاكتها، رغم آلاف الـ"لايكات" التي باتت معياراً للجودة!

زَمَنٌ بهكذا مواصفات، لا يليق به إلّا هكذا معيار.

وأعود لسؤال البسطاء من معارفي القدماء: كم تدفع للجريدة كي تنشر كتاباتك؟

وأضحك. وشرّ البَليّة ما يُضحك!

 

 

  • إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.
أضف تعليقك