في سوق الخضار، فقط التّين ولا خيار
يحكى أنّ تُجّار التّين كانوا قد بدأوا يحتكرونه حتى أصبحوا أسياد السوق وملوكه، يقشّرونه ويقطّعونه ويغلّفونه ويوزّعونه على السوقة الذين باتوا أسرى مذاقه الحلو؛ قبل أن يكشف هؤلاء التجّار عن وجههم الحقيقي، إذ بدأوا يبيعونه بعَجَرِه وبَجَرِه وبالثمن الذي يحقّق لهم مصلحتهم، فتارةً يرفعون سعره لاستدامة الاحتكار وأخرى يغرقون به السوق فيحرقون الأسعار.
توسّع نفوذ تجّار التّين في السوق واستشعروا قوّتهم وسرعان ما سيطروا عليه، ثمّ ما كان منهم إلا أن قرروا بمشورة من شيخ كارهم وشَهبَندَرِهم؛ منع عرض وبيع كلّ السلع الأخرى حتى لا ينصرف انتباه السوقة عن بضاعتهم التي أصابها الذَبَل، لتجول في رأس شيخ الكار -غير الحاسر- فكرة غايةً في الدهاء، فاقترح على أتباعه أن يسمحوا ببيع الحنظل فقط ليجبر مذاقه المرّ السوقة على ابتياع تينهم وتذكّر أفضليته ولو كان ذابلا؛ فيظلوا أسرى تجّاره.
هلَّل تُجّار التّين لشيخ كارهم وصفّقوا بحماس وقبّلوا يده، ثمّ أشار كل منهم إلى زبانيته ليُخرِجوا من السوق كلَّ من يعرض بضاعةً مختلفةً من الفواكه والخضار، إلا من يقبل بيعتهم ويتحوّل إلى تاجر تين مثلهم أو يبدّل بضاعته بالحنظل، وإلا يرحل مختاراً أو سلّطوا عليه السوقة ليخرجوه ويلاحقوه بشبهة بيع سلعة محرّمة لإفساد حياتهم.
استرخى تجّار التّين بعد أن خلت لهم الساحة، وحرَّموا بضاعة غيرهم بينما بضاعتهم مباحة. مرّت حقب والسوقة يتجرّعون التّين الذي تحجّر مثل الحطب... إلى أن استيقظت فيهم نزعة التمرّد والرغبة في التغيير؛ ليبدأ شيطانهم يزيّن لهم البحث عن الثمار المحرّمة عليهم؛ ليتعرّفوا على مذاق جديد غير الذي ألفوه وألفوا عليه.
دخل السوقة السوق وقد نُزَعَت من قلوب بعضِهم الرهبة والهيبة من تجّار التّين، فإذا أعينهم تدور باحثةً عن معجزة قد تكون حدثت فحققت لهم مرادهم دون عناء، لكنّهم لم يجدُ سوى التّين الذي عهدوه؛ وقد ازداد ذَبالُه وتَحجُّرُه بفعل حركة الحياة وتصميم تجّاره على إبقائه على حاله... وفي آخر السوق كان الحنظل ما يزال يفترش الأرض دليلاً على أفضليّة التّين وعلوّه على غيره.
استثيرت مشاعر الثوّار من طول مهانة الاحتكار ووطأة القهر وذلّ الإجبار، فذهبوا نحو بسطات الحنظل وبدأوا يقضمونه ويلوكونه بنهم، فيما يشبه الثورة على التّين الذابِل، فهرع تجّار التّين إلى شَهبَندَرِهم مرةً أخرى ليشور عليهم، فأطرق قليلا... ثم تناول بهدوءٍ وبطءٍ شديدين من على رفٍّ قديمٍ خلفه؛ كتاباً أصفر على غلافه صورة جدّه وقد عشّش عليه العنكبوت وغطّاه الغبار... ثم قرأ فيه بضع سطور... ثم رفع رأسه ونظر بعينيه الباهتتين إلى أتباعه، بينما تعلو وجهه المتجعّد ابتسامة خفيفة تنم عن ماكرٍ متمرّس، ثمّ أغلق الكتاب ببطءٍ شديد وأعاده إلى مكانه وهو يقول بصوتٍ ضعيف: "لا بأس، فالنسمح لتجّار الخيار والفقّوس والقرع والليمون بعرض بضاعتهم وبيعها". من جديد! هلّل المتحلّقون حوله وصفّقوا وقبّلوا يديه وقدميه، ثمّ أشاروا إلى زبانيتهم ليفتحوا أبواب السوق للبضائع التي سمح بها الشَهبَندَر.
تهافت السوقة على السلعة الجديدة فبدأوا يبتاعونها بجنون، وما هي إلا لحظات حتى وجدوا أن حياتهم تحوّلت إلى خيار وفقّوس وأحاديثهم مجرد قرع ويحتاجون أن يعصروا على أنفسهم الليمون طوال الوقت ليتحمّلوا غصّة العيش... فعادوا تائبين آيبين إلى تجّار التّين؛ سائلينهم بضاعتهم طالبين منهم الصفح والغفران.