في انتظار غودو العربي: بطل من خارج الزمان

في انتظار غودو العربي: بطل من خارج الزمان

فيسبوك في عالمنا العربي، مالئ الدنيا وشاغل الناس. ومنه وفيه أراقب وأقرأ وأسمع وأشاهد، ثم أنكفئ على ذاتي أتأمل وأتدبر بكل ما قرأت وسمعت وشاهدت، ثم أقلبه بما اختزنته الحياة بكل ما عرفته فيها من معارف فأجدني أمام قناعات جديدة ومراجعات كثيرة في يقينيات ومعتقدات أكتشف من خلالها أنني لا يمكن أن أشرب من ذات النهر مرتين وأكثر، وأدرك حينها بيني وبين نفسي حجم ثورة تكنولوجيا المعلومات في العالم؛ عالمي أنا على الأقل.

 

أقرأ عن فنزويلا مثلا، وما يحدث فيها. مادورو خليفة شافيز امتداد لعداء طويل مع واشنطن! لكن هل هذا العداء يكفي لجعل مادورو بطلا؟ ولماذا كان شافيز بطلا من الأساس؟

 

 

السؤال يستنسخ نفسه عندي: لماذا صدام حسين بطل عند كثيرين؟ لماذا حافظ الأسد أيقونة بطولة أيضا عند كثيرين؟ وحسن نصرالله وزعماء إيران بثورتهم الإسلامية أيضا؟ لماذا لا يزال رجل مثل تشي غيفارا رمزا بصورته الشهيرة للحرية؟ لماذا حزن كثيرون على فيديل كاسترو التي لا تزال بلاده غارقة بالفقر والعدمية والتخلف؟

 

ترامب ليس بطلا. أتفق، ولا حتى يصلح ليكون نصف بطل! ولا أي من ساكني البيت الأبيض أبطال! وأجدني أكتشف أن لا أحد منهم أساسا طرح نفسه بطلا أو فاز بالانتخابات على برامج بطولية. هم مجرد رؤساء تنفيذيين انتخبتهم شعوبهم لإدارة الدولة، من يفشل ويخفق يخرج من البيت الأبيض، وفي حال عاد يخرج بعد المرة الثانية بقوة الدستور. (كذا في فرنسا وبلجيكا وبريطانيا وأستراليا والهند وغيرها).

 

لكن لماذا كل من سبق ذكرهم قبل تلك الفقرة، في العالم العربي وعند كثيرين هم أبطال؟

في هجرتي، انفتحت على مجتمعات أوسع من الصندوق الضيق الذي كنت فيه. وهذا جعل الأسئلة أكثر تركيبا في تعقيدها.

بشير الجميل، مثلا: التقيت لبنانيين يرون فيه بطلا وطنيا حقيقيا ويحتفلون بذكراه كزعيم وطني أكثر منه رئيسا تم اغتياله قبل أن يدير الدولة يوما واحدا.

حدثتهم محتجا عن مجزرة "صبرا وشاتيلا" فردوا عليّ بالحديث عن "مجزرة الدامور!".

في ذات الوقت، التقيت عربا رأوا في قاتل بشير الجميل، حبيب الشرتوني، بطلا فدائيا، لأنه فقط قام بإنهاء حياة من يراه كثير من اللبنانيين زعيما وطنيا. كثير من العرب ونسبة لا بأس بها من اللبنانيين يرون في حبيب الشرتوني بطلا مقاوما.

 

حدثتهم عن "مجزرة الدامور" وفاجأوني أن لم يسمع بها أحد!

 

"المقاومة"؛ هي الكلمة السحرية التي لو تتبعتها لما وصلت إلى حقيقة بقدر ما غامرت في متاهات العقل السياسي العربي التي تضيع فيها، تجرجر خلفك أثقالا من الخيبات المتراكمة.

 

مقاومة ماذا بالضبط؟ إسرائيل؟ ما هي حدود وضوابط مفهوم المقاومة في عالم يتزحزح قاريا، وفي خضم صعود فكرة الإنسان.

 

ما معنى أن تقاوم إسرائيل طوال هذا العمر، وأنت تنكل بشعبك مثلا وتحرمه حرية القرار؟ ما معنى أن تطالب بحرية الفلسطينيين وأنت تتسلى بالقمع لتثبيت سلطتك "المقاومة"؟

 

بالضرورة، إسرائيل أيضا تقاوم كل هذا التجييش الذي يهدد وجودها، لكن إسرائيل (ولنكن صريحين) دولة مؤسسات، ودولة قانون. إسرائيل ألقت برؤساء وزارات كانوا أبطالا وطنيين في السجن لأنهم فسدوا.. ببساطة.

 

إسرائيل دولة احتلال؟ نعم وهذا جدا صحيح. أليس الأجدى أن نقاوم لإزالة الاحتلال لا توظيفه لغايات شرعنة الاستبداد؟

 

ألم تكن لعنة الاستبداد التي أغرقنا أنفسنا بها دوما هي شبكة نجاة الاحتلال الإسرائيلي طوال عقود الاحتلال؟ ألم يصل الاستبداد نفسه بكل مشتقات الفساد الطحلبي فيه إلى النموذج المصغر للدولة الفلسطينية من خلال سلطة حكم ذاتي، انتهت إلى حكم بوليسي وتقوقعت بمواردها على "ذات" رموزها "النضالية" فسقطوا وانتهت صلاحيتهم؟

♦♦♦♦♦♦♦♦♦♦♦♦♦

على ضفاف ذات التداعيات...

تعرفت إلى شخص أمازيغي قبل فترة، حدثني عن القلادة التي حول عنقه وأنها ترمز إلى ملكة من ملكات الأمازيغ. هي بالنسبة للشعوب الأمازيغية بطلة وطنية في وجدانهم التاريخي. استزدت منه بدافع الفضول، ليحدثني أنها قاومت ـ حسب وصفه ـ "احتلال العرب" لبلادهم، وماتت قتلا ببشاعة على يد عقبة بن نافع.

 

بحثت عن سيرة تلك الملكة في المحتوى العربي على الإنترنت، لم أجد كثيرا عنها وفي الأدبيات التاريخية الإسلامية هي كاهنة وعرافة لا أكثر، لكن وجدت في شمال أفريقيا صروحا ومدارس وشوارع تحمل اسم عقبة بن نافع نفسه، فهو أيضا بطل عند الأكثرية التي ترى في صدام حسين بطلا، والأسد بطلا، وكاسترو بطلا، وشافيز بطلا... ومن لا يرى في حسن نصر الله بطلا فهو يرى في شيخ اسمه القرضاوي بطلا، وكثيرون من كل هؤلاء يرون في مادورو الفنزويلي بطلا. ولا يرى أحد منهم في ملايين الفنزويليين المعدمين والمشردين والمهاجرين بهجرة جماعية أي صورة بطولة.

 

ومن التاريخ أيضا...

كان تشرشل قد التقى بالجنرال ديغول أول مرة ولم يعجبه كبرياء ديغول، حين قال له ديغول مرة: أنا فرنسا.

 

 

هذا الذي قال إنه "فرنسا" كلها بكل ما فيها في لحظة انكسار فرنسا، دخل باريس بطلا، وزعيما ورئيسا منتخبا، وخرج من باريس إلى قريته مستقيلا بعد أن قال له الفرنسيون: لا. وبقي بعد ذلك زعيما محترما لا رئيسا مذموما باستبداده. أما البطولة... فتلك حكاية تركها هو والفرنسيون للتاريخ. والتاريخ دوما أعور بعين واحدة.

♦♦♦♦♦♦♦♦♦♦♦♦♦

في المحصلة...

العقل الجمعي العربي (أتحفظ أن يكون عقلا سياسيا)، متآلف حد الاستسلام لفكرة البطل الجمعي الذي يجمع كل الأمنيات ويحصد كل الخيبات في شخصه الوحيد المنفرد. وهذا "الانتظار" الدائم والمستمر والمتكرر والأزلي للبطل الجمعي، هو انتظار خلق حالة "فرض الكفاية" لكل عربي. فالإعفاء المريح والذاتي للمواطن العربي من أداء دوره البطولي المفترض والضروري في حياته ومعيشته لمقاومة الفساد والاستبداد والإهمال والقمع الذي يعيشه، وهو عيش على ذمة انتظار "البطل" الوهمي على الدوام.

وفي عصر تكنولوجيا المعلومات، تصبح القصة أسهل بكثير في استحضار "أيقونات الوهم البطولي" عبر صور وعبارات بلاغية كثيرة، والأسهل دوما أن نتهم أميركا والغرب بالإمبريالية الآثمة.

... "وما لزماننا عيب سوانا".

 

الحرة*

أضف تعليقك