فيض "السيناريوهات" وشح "النماذج"
حين نلقي نظرة حولنا، نجد أننا في المنطقة العربية أمام فائض من السيناريوهات، وأمام شحّ حدّ العدم في النماذج. هنا تتماهى كلمة "سيناريو" مع الفشل أو الأفق الكارثي أو النتيجة المحبطة؛ أو -في عقلية المؤامرة- مع المخطط الجهنمي لتمزيق البلدان وتقسيم المجتمعات، حيث يتكرر التحذير من نموذج لبناني يُضعف الدولة والمجتمع، أو نموذج عراقي أو سوريّ يحفّز نوازع الطائفية والعنف، أو نموذج ليبي أو يمني أو سوداني.. يجعل الغلبة للميليشيات والقوى العسكرية والقبلية التي تقدم صورا لحالة سياسية أو ثقافية واجتماعية تسبق نشوء الدولة الحديثة، بأنظمتها وقوانينها ومؤسساتها الراسخة.
وقد اعتدنا -في ظل "قحط" النماذج وقصص النجاح المتكاملة والمغرية في منطقتنا في مجال الدولة والحكم والتنمية- أن نُكثر من استدعاء "النموذج التركي" كمثال أكثر صلاحية من غيره في المنطقة لتقديم الدروس وإعطاء العبر والخبرات؛ فإذا بنا نُمنى بجرعة إحباط إضافية ونحن نكتشف عورات في هذا النموذج ونقاط ضعف. وقد كانت أحداث ميدان "تقسيم" في إسطنبول أكثر ما طفا على السطح في هذا المجال.
اليوم، نلحظ كيف أن مسار الانتفاضات العربية منذ نحو عامين يقدّم مزيدا من الشواهد على أن الأزمة التي يواجهها العالم العربي لا يمكن اختصارها بـ"أزمة نظام"، بل إنها تتعدى ذلك الى كونها أزمة الدولة العربية ذاتها. فالحركات الاحتجاجية، السياسية الطابع، لا تلبث، وفق بعض الباحثين، أن تتخذ وجوهاً طائفية ومذهبية وإثنية تنذر بالانقسام التفتيتي في كل قطر عربي، واضعة إياه على شفا الحرب الأهلية وخطر التذرّر إلى عصبويات ما قبل وطنية. فلبنان كان النموذج الفذ في الانكفاء إلى طوائفه ومذاهبه وعصائبه، في ما اصطلح على تسميته بـ"اللبننة"؛ والعراق تمزق أدياناً ومذاهب وأعراقاً وكيانات؛ وليبيا أُفرزت قبائل مقتتلة؛ ومصر تبدو على وشك حرب أهلية.
إذن، لا تني هذه التحولات تحاصر الخطاب السياسي العربي الذي أفرط في تفاؤله بإسقاط الأنظمة الاستبدادية، فإذا هو يفاجأ بالمآلات البائسة للانتفاضات وأسئلتها المربكة، وفق المثقف اللبناني كرم الحلو، الذي يقول: لكأن تضحيات شعوبنا العربية قد ذهبت سدى أو تكاد. ويتساءل الحلو: لماذا لم يرقَ العرب من كل هذه التضحيات العظيمة إلى بناء مجتمعات محصنة، ودول قوية؟ لماذا ينتصرون في معركة الجهاد ومقاومة الاستبداد، ويخسرون معركة بناء المجتمع والدولة والوطن والأمة؟ لماذا يوشك المجتمع، في أي قطر عربي، أن يتفجّر وأن ينحلّ إلى مكوناته إزاء أي أزمة تطاول النظام؟
هنا، تبدو الأسئلة أكثر من الإجابات. لكنّ ما حدث في مصر وتونس وغيرهما، يقدّم لنا إحدى الخلاصات المهمة، والتي تقول إن المعركة في الكثير من المجتمعات المسلمة ليست بين الإسلام والعلمانية، بل بين أنماط مختلفة من الإسلام، وأنماط مختلفة من معتنقي الليبرالية. ولذلك، فإن من الأفضل الترويج للمزيد من الانفتاح الاقتصادي، وترسيخ حكم القانون والمؤسسات، بهدف تمكين الطبقة الوسطى، ومن ثم الاعتماد عليها في كبح جماح التطرّف -الإسلامي أو الليبرالي- والعنف ونوازع الإقصاء واحتكار الصواب.
دولنا ومجتمعاتنا ما تزال تبحث عن هويتها، وهي لا تريد التفتيت والانقسام والعنف.. لكنها ما تزال تبحث: كيف يتحقق لها ذلك، وكيف لها أن تفرح بكثرة النماذج لا السيناريوهات؟
الغد