فكّروا.. فسالت دماؤهم!

فكّروا.. فسالت دماؤهم!

 

 

في سنة 1987 تم اغتيال المفكرين اليساريين اللبنانيين حسين مروة، ومهدي عامل، في بيروت.

في سنة 1992 تم اغتيال المفكر التنويري المصري فرج فودة، في القاهرة.

في سنة 1995 جرت محاولة فاشلة لاغتيال الروائي الليبرالي، حائز جائزة نوبل للآداب، نجيب محفوظ، طعناً بخنجر في القاهرة.

في السنة نفسها، والمدينة نفسها، تم تكفير المفكّر الإسلامي والأستاذ الأكاديمي نصر حامد أبو زيد، والحكم بتفريقه عن زوجته، ما اضطره للجوء إلى هولندا والعيش هناك إلى تاريخ وفاته.

في سنة 2005 تم تفجير سيارة الأكاديمي والمثقف والصحفي اللبناني اليساري سمير قصير، في بيروت.

 

هذا غيضٌ من فيض. هذا قليل القليل من جرائم وعمليات قتل نالت أصحاب المواقف والاجتهادات المغايرة لمألوف الأفكار الرائجة في مجتمعاتنا العربية. وخلافاً للمقولة الداعية للتفكير والتجديد بمراجعة ما هو مستقرّ في الأذهان، البائنة فيما نُقل عن الرسول: "للمجتهد المصيب أجران، وللمخطئ أجْرٌ واحد"، فإنّ مبدأ الاجتهاد نفسه بات موضع استنكار ورفض، بلغ في غلوائه درجة القتل بذريعة الكُفْر والخروج عن الدين.

 

بذريعة الحفاظ على ما هو مقدَّس، واستناداً إلى أكثر التفسيرات تشدداً وتطرفاً، تُسْفَك دماء مَن أعملوا التفكير في أمور دينهم ودنياهم من أجل رفع التناقض بينهما. وبالمثل؛ وبحجّة الدفاع عن النظام ومشتقاته، يتعرض أصحاب الرأي المعارض والرؤية المغايرة للاغتيال جهاراً نهاراً، رغم أنْ لا أحد بمقدوره النيَل من المكانة الفكرية والمستوى المعرفي لهؤلاء "الضحايا"، أو الطعن في انتمائهم الصميمي للوطن وتضحياتهم في سبيل تقدمه.

 

غير أنّ هنالك، كما علّمتنا الأيام التي نعيش وأزمان أسلافنا من قبلنا، أنّ مفهوم الدين في عمقه وجوهره ليس واحداً. فثمة جماعات وجدت فيه مجالاً لشكلٍ من "الاحتراف" على صعيد الممارسة، ما أوقعَ في ظنهم أوهامَ أنهم باتوا "الأوصياء" عليه وعلى أتباعه! وانطلاقاً من تلك الأوهام انصرفوا إلى تتبع كلّ مَن يخالفهم في الفهم والقول والكتابة، وأخذوا يكيلون له التُهَم المجانية، وينشرون عنه الأقاويل الباطلة، وينشطون بالتحريض عليه إلى حدّ القتل! إنْ كان القتل يتمّ بأيديهم، أو بأيدي أتباعهم من الجهلاء.

 

وكذلك علّمتنا الأيام التي نعيش وأزمان أسلافنا من قبلنا، أنّ مفهوم الوطن في تعدد أبعاده، والكيفية التي من خلالها يكون التعبير عنه وعن الانتماء إليه، ليس واحداً. فباسمه، وفي سبيله، ومن أجل رفعته، وللدفاع عن حياضه نشهد، يومياً، أنشطة لا نعرف الناتج الفعلي لها. أنشطة تتبارى جهات عِدة في التغني بها، والتغزّل بالمسؤولين عن إقامتها، والإشادة برُعاة حفلات افتتاحها، إلخ.

 

نشهد ذلك كلّه، ونقرأ عن ما هو أكثر منه، ونرى ما اصطلحنا على تسميتها "سَحْجات" تملأ ساحات مناطقنا النائية، الفقيرة، الجائعة، لاغية هذا "الوطن" كمفهوم يتعرض للتشويه لتستبدله بتصنيم الشخص على نحو ٍ مكشوف في كذبه ورُخْص الانتهازية الراشحة منه!

 

وهكذا يتكشّف مفهوم الوطن ويتعرّى كلّما تأزَمَت شؤونه وكثرت. ينتقل من كونه يعني: الناس والمكان كتلة ملتحمة ذات تعددية طبيعية لكنها موحدة في قضاياها، إلى فئات وجماعات وأصوليات، إلى جهويات وجاهات تتمتع بسلطات، ثم إلى شخص يختصر الجميع!

 

حين ندقق في تفاصيل تلك السياقات التي تستنزف قِوانا، الفردية والجماعية، ونعثر على حقيقة أننا أصبحنا كثور الساقية، ندور حول الدائرة الواحدة طوال الوقت، وندور حول أنفسنا؛ فإنّ المفاجأة لن تصيبنا يوم يصلنا خبر اغتيال جديد، لمفكّر ما زال محافظاً على كرامته: ما زال محافظاً على قدسية العقل الذي جعله الله فيه فاعلاً، مجتهداً: ما زال محافظاً على الإنسان في عمق وجوده.

 

تراني أسأل أصحاب الفتاوى، والتحريم، والتجريم، والتكفير، والتخوين، ماذا يكون منهم أن يفعلوا إزاء كلّ من يقول:

"أنا أفكّر؛ إذن أنا موجود."

 

إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.

 

أضف تعليقك