فضيحة ميردوك ولجنة ماكبرايد... العالم يدفع الثمن

فضيحة ميردوك ولجنة ماكبرايد... العالم يدفع الثمن
الرابط المختصر

حذر الايرلندي شين ماكبرايد قبل 31 عاما من خطر امتلاك الشركات الكبرى متعددة الجنسيات لوسائل الإعلام، ومن سيطرتها على المجتمعات عن طريق الإعلام ولم يعره العالم الاهتمام آنذاك. فهل اليوم يمكن أن نتذكر قصة ماكبرايد بعد أن ظهر إمبراطور الإعلام روبرت ميردوك متوسلا هو وابنه جيمس طلبا للصفح عنهم عن ممارسات مشينة مارستها صحافة الشركات المتعددة الجنسيات منذ عام 2000 وربما قبل ذلك.

تكشف فضيحة إمبراطورية ميردوك حقيقتين هامتين في علم الإعلام. الحقيقة الأولى هي أن بريطانيا بفضيحة ممارسات صحيفة (نيوز أوف ذا وورلد) المملوكة للإمبراطور الإعلامي روبرت ميردوك دفعت ثمنا باهظا لموقفها الذي اتخذته عام 1980 حينما شنت بالتحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية هجوما قاسيا على منظمة اليونسكو، وأعلنت الدولتان آنذاك انسحابهما من هذه المنظمة، على اثر نشرها تقريرا أعدته لجنة (ماكبرايد) التي شكلت عام 1977 للبحث في الخلل الحاصل نظام الإعلام العالمي، إذ طالبت اللجنة بضرورة وضع نظام إعلامي جديد يعالج اختلالات خطيرة في خارطة الإعلام الدولي حيث نبهت إلى نتائج خطيرة لنظام الإعلام العالمي الذي تقوده الشركات الكبرى، والتي نراها ألان تعصف ببريطانيا العظمى وكأن شين ماكبرايد رئيس اللجنة كان يعني ما يقول آنذاك. كما نشرت افتتاحيات الصحف الأمريكية والبريطانية في تلك الفترة مقالات تطلب باستبعاد اليونسكو من الإسهام في رسم الخريطة الإعلامية للعالم ردا على ما ورد في التقرير، وما كان من اليونسكو إلا أن تخلت عن التقرير لتعيد بريطانيا والولايات المتحدة إليها.

لقد حذر تقرير لجنة ماكبرايد عام 1980 من الآثار السياسية والاجتماعية والاقتصادية الضارة على المجتمعات من امتلاك الشركات الكبرى متعددة الجنسيات مثل نيوز كوربوريشن المملوكة لميردوك لوسائل الإعلام دون ضوابط، حذرت اليونسكو في أوائل الثمانينيات من أن التوجه العام للدول الكبرى في فتح المجال أمام التدفق الحر وغير المتوازن للمعلومات سيؤدي إلى سيطرة تلك الشركات متعددة الجنسيات على العالم لتحقيق أهدافها الربحية التي تقوم على أساس إذابة الثقافات المحلية لشعوب العالم وإحلال الثقافة الاستهلاكية مكانها مع استعداد تلك الشركات لاستخدام كافة الخيارات لتحقيق تلك الأهداف التوسعية.

منذ السبعينيات وشركة نيوز كوربوريشن المملوكة لميردوك تسعى للسيطرة على العالم عبر الإعلام وقد نجحت في ذلك ومن الأمثلة نجاحها في الدخول إلى المجتمعات العربية عبر تحالفات الدمج مع شبكة قنوات روتانا المملوكة للأمير السعودي الوليد بن طلال.

إن فضيحة التنصت ودفع الرشى لضباط الشرطة في بريطانيا والعلاقات المصلحية مع الساسة في بريطانيا فتحت المجال أمام تكهنات باحتمالية أن تكون الولايات المتحدة الأمريكية ساحة أخرى لتلك الممارسات، كما انه ولاشك أن الأمير الوليد بن طلال بدأ يعد العدة لمواجهة أزمة ربما تعصف بتحالفه مع ميردوك إذ إن الدول العربية ربما لم تسلم أيضا من ممارسات الفساد من وسائل الإعلام المملوكة لمجموعة ميردوك لتحقيق السبق الصحفي وهذا هو فساد الصحافة بحد ذاته.

الحقيقة الثانية أن الصحافة لا يمكن أن تحكمها القوانين، ويمكن أن تضبطها أخلاقيات المهنة، فالقانون يمكن أن يسمح للإعلامي بكثير من الأمور التي يرفضها ضميره، وهناك حالات يمكن أن يكسر فيها الإعلامي القانون لصالح الأخلاقيات، ولا شك أن أخلاقيات الإعلام ترسم إطارا آخر أكثر ضيقا يختلف عن القوانين، ولكنها تترك أيضا خيارا يقوم به الفرد حسب قيمه الشخصية.

وبمثال بسيط فان القانون لا يمنع الصحفي من التعامل مع أجهزة المخابرات ومساعدتها على القيام بأعمال تجسس، في حين أن أخلاقيات العمل الإعلامي المهني ومواثيق الشرف تعتبر ذلك خطا احمر لا يمكن للإعلامي المهني أن يقترب منه، وهناك أمثلة كثيرة تبين أن مواثيق الشرف الصحفي وأخلاقيات الإعلام هي وحدها فقط من تمنع انتشار الفساد في الجسم الصحفي، مع التأكيد أن ذلك يتوقف على عاملين أساسيين أولهما أن ينشأ الصحفي والإعلامي في بيئة تعطي لأخلاقيات الإعلام قيمتها الحقيقة، وان يؤمن الإعلامي إيمانا مطلقا بسيادة الأخلاق والضمير في عمله.

ربما يظهر هذا المنطق مثاليا ونظريا على الورق، لكن الباحث المتعمق يجد أن كثيرا من الصحفيين عبر أنحاء العالم نجحوا في تطبيقه على الرغم من أن كثيرا منهم فقد إما حياته كشبهات وفاة الصحفي شون هور اثر كشفه فضيحة التصنت التي انتهجتها الصحيفة المملوكة لميردوك وغيره من الصحفيين الذين دفعوا حياتهم ثمنا لمهنيتهم. أو فقد مصدر رزقه أو ربما الصقت إليه تهم جنائية أو تعرض للحبس والتعذيب كما هو دارج في البلاد العربية.

إن لفضيحة ميردوك أبعادا سياسية واقتصادية واجتماعية ضارة وهذا اجمع عليه العالم قاطبة، وهو ذات العالم الذي يم يعط شين ماكبرايد اهتماما عام 1980، حينما حذر من سيطرة الشركات متعددة الجنسيات على العالم.

ولكن كإعلاميين علينا أن لا نغرق في التحليل السياسي لهذه الفضيحة، بل علينا أن نقف وقفة حاسمة أمام هذا المشهد الذي يجب أن يقنعنا بقوة في الحاجة لأخلاقيات الإعلام لإصلاح الإعلام، والتسليم بعدم جدوى القوانين في خلق إعلامي مهني يتحلى بضمير يؤهله لتلك الأمانة.

*مدير مركز الأبحاث والسياسات الإعلامية