فرجة مدفوعة الثمن على خيباتنا

فرجة مدفوعة الثمن على خيباتنا
الرابط المختصر

 

تعدّ كرة القدم إحدى أهم التعبيرات الوطنية والمدنية في البلدان المتفوقة كروياً، وفي مقدمتها أوروبا، إذ يمثّل كلٍ فريق مدينةً بعينها، متآلفاً مع رموز أخرى مثل الطعام والشراب والأزياء، التي تدل على انصهار مجموعة من القبائل الأوروبية، في لحظة تاريخية، لتشكل حاضرةً تجمعها هوية واحدة، لذلك يشجع أبناؤها نادي مدينتهم لا غيره، إضافة إلى منتخبهم الوطني كمؤشر على اندماجهم الكلي أمةً تعيش في دولة.

 

صورة نقيضة تمثلها دول العالم الثالث، وخاصة تلك التي تمتلك منتخبات ضعيفة، فلا يمكن لحدثٍ مهما بلغ حجمه أن يخلي شوارعنا من البشر ويعيدهم إليه محتفلين به باستثناء كرة القدم، لكن معظم ما نشاهده ليس من إنتاجنا الرياضي، إذا جاز التعبير، فنتحزب لنوادي الغرب ومنتخباته؛ متفرجون سلبيون وسوقٌ يجلب الأرباح للشركات التي تحتكر نقل المباريات وبثها.

 

تتصور أحياناً أننا ضاحية في روما عند انعقاد الدوري الايطالي، أو امتدادٌ لمقاطعة كاتالونيا حين ينطلق الدوري الإسباني، وهي ظاهرة غير موجودة بهذه الكثافة لدى أي شعب استطاع أن يطوّر كرَته الخاصة، وبات ينافس داخل قارته وضمن كأس العالم، بل يُسجل دائماً تحسن معظم الرياضات في دول عالمثالثية، بحسب نتائج الدورات الأولمبية، في وقتٍ تحضر فيه الفرق العربية "شهود زور"!

 

تأسسست بعض الأندية على قاعدة تمثيلها لمدن عربية منذ منتصف القرن الماضي، غير أن معظمها –وفي بلدان المشرق العربي تحديداً- لم تستطع أن تحقق بطولات وانتصارات، كما بهت حضورها في مدنها، ولا تحظى بأولوية في التشجيع، الذي يتوجه، بالعادة، إلى أندية ومنتخبات أوروبية، وقد تجد المواطن العربي يشجع أكثر من نادٍ في القارة العجوز، ولا يلتفت كثيراً لناديه المحلي.

 

أردنياً، يتبدى النموذج الأكثر سوءاً، فلا تعبر نوادي كرة القدم عن مدنٍ أو تجمعاتٍ حضريةٍ مثل غيرنا من دول العالم، إنما ذهبنا بتشوهاتنا إلى الملاعب، وصار "الفيصلي" نادياً لشرق أردنيين، و"الوحدات" نادياً لذوي أصولٍ فلسطينية، والنوادي الأخرى هي مجرد ديكور هامشي، فلا تنوع رياضي في بلدنا بمعزل عن انقسامنا العمودي إلى هويات فرعية تتحكم بإثارتها جهات محددة على قاعدة الشحن والتفريع، وفي الوقت ذاته نلحظ حالة جمود لتجمعات بشرية ترفض أن تبحث عن مصالحها وتؤطر نفسها في نقابات عمالية وجمعيات وأندية رياضية، وتدمن الانخراط في اصطفافات لا طائل منها.

 

مسألة أخرى تستدعي التدقيق، وهي انخفاض أعداد المشتركين في النوادي العربية، وعدم قدرتها على لعب أدوار اجتماعية وثقافية وتطوعية في مجتمعات قد يصل الشغب عندها إلى القتل، حيث شهدت مباراة الأهلي والزمالك سقوط 22 قتيلاً، هذا العام، في أحداث ذات صلة باحتقانات المجتمع، وتؤشر على اضطراب علاقته بالسلطة، ناهيك عن تدخل الأجهزة الأمنية في حوادث الشغب واستثمارها.

 

تراجع المدن العربية ونواديها يعكس أقصى درجات الانفصام لدينا، فالأموال الخليجية تواصل إنعاش الأندية الأوروبية، سواء عبر المساهمة في ملكيتها، أو في تقديم مئات الملايين لرعايتها، مقابل عجز حقيقي عن تطوير اللعبة في بلداننا العربية، ودعم أنديتها ومنتخباتها واتحادها الكروية التي يتذبذب أداؤها، وتتخبط إداراتها، ويشار إليها بالفساد حتى في دول الخليج نفسها.

 

لنترك استلابنا للمنتصر الكروي وفسادنا ومشاكلنا الرياضية/ الاجتماعية جانباً، ونفكر بسلوك الفرجة الذي نمارسه حصراً، ونتساءل: لماذا لا تؤثر متابعة هذه اللعبة فينا بالمعنى الإيجابي، كونها استعارة للحرب بحسب مقولة الروائي الشهير جورج أورويل وغيره من الكتّاب والفلاسفة عن كرة القدم، لعلنا ننجح بضبط صراعتنا واختلافاتنا في محاكاة لقواعد كرة القدم وأخلاقياتها.

 

خسارة كاملة؛ لا إنجازات كروية، وشغب الملاعب يشتد على وقع انقساماتنا المجتمعية، وجماهيرنا تعزف عن التفاعل مع كل قضاياها، لكن مدننا تُشل فيها الحركة بسبب انشغالنا بمشاهدة كرة قدم أوروبية تزدهر بأموال عربية!

 

  • محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.

 

 

أضف تعليقك