عيون فيها رمد!
قبل يومين، تجمع أهالي ومؤيدو "معتقلي الحراك" وشكّلوا سلسلة بشرية ممتدة، للتعبير عن احتجاجهم على الاعتقالات، فيما بدأ عدد من الشباب المعتقلين إضراباً عن الطعام، سيمتد إلى الآخرين، وربما يتوسع إلى زملاء لهم في الحراك خارج أسوار السجون.
ثمّة تيار ينظّر داخل الدولة لـ"العين الحمراء" في مواجهة ارتفاع "سقف الهتافات". وعلى النقيض مما يتم الحديث به اليوم من خطورة ملف "معتقلي الرأي"، فإنّ أصحاب هذا الموقف يرون أنّ الاعتقالات آتت أكلها باعتقال مفاتيح الحراك، وضبط سقف الهتافات، خلال الأيام الماضية.
من يتبنّى مثل هذا الموقف لا ينظر إلاّ بعيون فيها رمد؛ فهو يتجاهل حجم التعاطف الداخلي والخارجي الذي حازه هؤلاء الشباب، ليس بالضرورة ممن يتفق معهم بالأفكار والهتافات. كما لا ينظر إلى خطورة مستوى التشكيك الذي خلقه الاعتقال في مصداقية الدولة وسمعتها لدى المواطنين أولاً، والمؤسسات الحقوقية الدولية ثانياً، بخاصة مع هذه الاتهامات الخشبية التي وُجّهت للمعتقلين، والتي تعيدنا إلى عصر ما قبل الربيع العربي، وتمحق التعديلات الدستورية ومعناها وجدّية الدولة في تطبيقها!
من يتبنّى هذا الرأي ينسى أنّ العلاقة السياسية، تاريخياً، قامت في البلاد على الدفء والتفاهم والحوار والتواصل، لا على الإكراه والضغط والضغينة؛ فليس المهم أن تقمع "الدولة" الأصوات مرحلياً وتكتيكياً، بل أن تخلق أجواءً مختلفة تعيد تأسيس العقد بين الدولة والمواطنين.
التعامل مع "جيل جديد" من الشباب لن ينجح في استنساخ واستخدام أدوات الإكراه التقليدية، سواء من عبّر عن مواقفه وآرائه بقوة وانفلات، أو من يتحدث عنها في العالم الافتراضي، أو حتى من يعيش حالة احتجاج صامت على الوضع السياسي، في حالة أقرب إلى "الاغتراب السياسي"، لكنه لا يشعر بالارتياح ولا الرضى عن الوضع الراهن سياسياً واقتصادياً.
الربيع العربي كسّر الثقافات التقليدية، وخلق وعياً سياسياً جديداً لدى الجيل الصاعد لن يكون مجدياً التعامل معه وفقاً للأساليب القديمة والتقليدية؛ فذلك لا يعكس قوة الدولة ولا حضورها، بقدر ما يعبّر بجلاء عن ضعفها وعدم قدرتها على الاشتباك مع الشارع، وضحالة رسالتها السياسية وخطابها، وفشل قنواتها الاتصالية في التعاطي مع المزاج الاجتماعي والسياسي.
من يختزل الحراك في عشرات من النشطاء الذين يتجاوزون "الخطوط الحمراء"، يقدّم قراءة خاطئة ومضلّلة لمطبخ القرار. فإذا كنا نشعر أنّ الأغلبية لا توافق على الشعارات الراديكالية، ولا تقبل بالانفلات في الهتافات، فإنّ المزاج العام، في المقابل، لا يشعر بالارتياح أيضاً للوضع الراهن، ولا هو راض عن السياسات الرسمية التي فتحت الباب مشرعاً للفساد، خلال الأعوام الماضية، ولا عن الطريقة التي أغلق بها البرلمان المنحل تلك الملفات، ولا عن الطريقة التقليدية في إدارة الدولة!
إذا نظرت دوائر الدولة إلى شباب الحراك في المحافظات على أنّهم عشرات في أقل تقدير، فعليها أن تضيف إليهم مئات من شباب الإخوان المسلمين الذين بالضرورة يشاركونهم مشاعر الخيبة وجموح التغيير على وقع الربيع العربي، إضافة أيضا إلى مئات من الشباب الذين يخشون التعبير عن رأيهم بهذه الصراحة، وآلاف ممن نقرأ لهم من نشطاء "الفيسبوك"، لنجد أنفسنا أمام ثقافة جيل شاب جديد، وليس أمام تحدّي "تأديب" عشرات النشطاء!
في المحصلة، ثمة خطيئة كبيرة تقع فيها المؤسسات الرسمية حين تتعامل مع الحراك بمنطق "الإنكار" أو "التجاهل"، وكأنّه "خارج السياق" الاجتماعي والسياسي. فإذا لم يتم التعامل معه سياسياً عبر آليات الحوار والإدماج، فسيمتد لاحقاً إلى شرائح أخرى، ويجذّر الأزمة السياسية مع هذه النخب الشبابية الصاعدة!