عن مئة عام من الغيم والمطر

عن مئة عام من الغيم والمطر
الرابط المختصر

 

لعلّ الحدث الذي لا نتلجلج، ولا نشعر بالحرج، أو تساورنا الشكوك في طبيعته حينما نطلق عليه اسم الثورة، هو ذلك الحدث الذي يعود إلى ما قبل مئة عام، وعلى الرغم من أنّ بعض الكتابات أحاطته بتهمة فصم عرى الوثاق الدينيّ، وأخرى غمزت من قناة الصداقة مع مستعمر مستقبليّ، إلاّ أنّه اكتسب بقوّة مشروعيّته التاريخيّة.

 

إنّ قصّة الثورة العربيّة الكبرى من أوّلها إلى آخرها، كما كتب الشهود عليها، كانت بالنسبة  للآخرين مطامعَ ومكاسبَ مستقبليّة، وحدثاً من أحداث التاريخ الكثيرة، لكنّها كانت قصّةَ حياة أو موت بالنسبة للعرب، وقضيّةَ وجود، وهويّة. وحينما نخضع تاريخها للبحث، سنقابل أسماءً نعرفها جيّداً: الشريف الحسين، الأمير عبد الله، الأمير فيصل، عودة أبوتايه، نوري الشعلان، فهد، مطلق، زعل، عزيز المصري، نوري السعيد، علي رضا الركابي، ياسين الهاشمي، عبد القادر الجزائري، عبد الغني العريسي... وسواء أاتفق العالم عليها أم اختلف، فسينتابنا شعور بأنّنا نعيش في فانتازيا أو خيال! لكنّهم كانوا رجالاً من لحم ودم، هلهلت الصحراء ملابسهم، وأكلّ الجدريّ وجوه بعضهم، وتزوّجوا نساء كثيرات لتعزيز الصورة التي قرّرها الشعر، وكانوا قبل مئة عام يمتطون ظهور جيادهم، يحملون أسلحتهم البدائيّة، ويجوبون هذه البوادي الصمّاء من مكّة إلى الشام، فالعراق، البوادي  التي منحتهم، مع قسوتها، محبّة الحياة. لقد عاشوا مع الناس ببساطة وكرم، وكانت تطلّ من عيونهم مكابدات الأنبياء:

الحياة كانت بهيجة بالنسبة للأمير عبد الله، كما تصفه الكتب، وكان لأخلاقه طابعُ الصراحة، وكان ساحراً في كسب الأصدقاء، كلماته منتقاة بتروّ وعناية، كان رجلَ دولة، وسياسيّاً داهية، والعقلَ المفكّر لأبيه وللثور.ة. أمّا الأمير فيصل، فقد كان منهمكاً برؤيته التكتيكيّة، يدرس كلّ حركة، ويرعى فرسانه بمسؤوليّة أبويّة، ويسبقهم إلى الحرب كأنّه كشّافُ نور، و"كان صوته بلهجته العربيّة مثل ستار شفّاف تشع من ورائه الكلمات لتعكس روحاً مقدامة طاهرة، وذكاء موروثاً صقلته المعرفة. كانت بداية الثورة مرتجلة.. والبنادق اليابانيّة معظمها مخرّباً أو معطوباً وقد اضطرّ فيصل إلى أن يملأ صندوقه الحديديَّ بالحجارة، واضعاً عليه حراسة شديدة كي يوهم الجيش ورجال العشائر بأنّ المال ما يزال متوافراً لديه".

 

في كتابه "أعمدة الحكمة السبعة" يقدّم لورنس، المُحبّ، أو الجاسوس، أو الضابط، ملاحظات على جميع من قابلهم، من الأمراء إلى سائسي الخيول والرعيان، ينتقد حيناً، أو يتهكّم، أو يشيد، لكنّه يؤكّد على أنّ رجالَ العشائر كانوا المحاربين الوحيدين في جيش الشريف، وعليهم كان يتوقّف مصير الثورة، وإذا ما جبنا هذه التلاع من العقبة إلى الرمثا، فبادية الشام والجزيرة الفراتيّة، سنسمع صدى همهماتهم وهم يديرون كفّ الموت بروح مقامرة، كانوا أوفياء لرغباتهم، ولزعيمهم، ونحن نعرف جيّداً معنى أن يكون مع المرء رجال أوفياء في الصحراء. إذن، لم يكن أولئك الرجال خيالاً، كانوا لكنّهم جعلوا الخيال واقعاً، إذ صنعوا الدولة القوميّة، الدولة- الأمّة، التي كانت فرصة وحيدة واستثنائيّة للعرب، ويؤسفنا أن نقول إنّها لن تتكرّر في المدى المنظور:

Nations are Narration- الأمم سرد وحكايات، الأمم خيال هذا ما يقوله المنظّرون، ونحن نعرفه تماماً لأنّنا نتاج له. وإذا كان لنا أن نتحدّث أكثر عن هذه الثورة فتلك هي ثيمة فريدة لها: أن تؤمن بحلمك، وتقبل من أجله بالألم وفداء الآخرين، وهذا يمنح سموّاً وعظمة، ويحمل الكون كلّه كي يتضافر معك لتحقيقه. الثيمة الأخرى هي تلك اليقظة، وذلك الوعي بالبعد القوميّ، والذي كان جوهر الثورة العربيّة الكبرى منذ رؤية الشريف الحسين بن عليّ لها، إذ رفض مراراً وتكراراً أن يضفي عليها رداء دينيّاً أو تعصّباً، كان يريد للعرب وجوداً قوميّاً وحكومة مستقلّة تدافع عن حقوقهم ليعيشوا بسلام، وقد يقول البعض إنّ فكرة الوعي القوميّ تفوق مفاهيم ذلك الجيل، لكنّ وقائع المدوّنات تثبت أنّها كانت فكرة رائجة عرفتها المنطقة بأتراكها وأوربيّيها، وأبنائها المحلّيين،  وحين سئل رجال العشائر "ترى بعد انتصار الثورة هل تحكم دمشقُ الحجاز؟ أم  يحكم االحجازُ دمشق؟". الجواب جاء: "المهمّ أن نتخلّص من المتطفّلين"! تلك عادة العرب التي نادراً ما خرجوا عليها، إذ يمتلكون الخطّة (أ)، ولا يمتلكون الخطّة (ب)، ويرى لورنس أنّ عبقريّاتهم فرديّة، وأنّهم يخيفون حينما يغيرون مجموعات صغيرة، ويضعفون حينما يصيرون جيشاً كبيراً، بسبب عدم خضوعهم للتنظيم.

 

بالمناسبة، ذلك الغيم ليس هو الذي أتى بهذا المطر، بل الغيم الذي تلاه، هو من فعل ذلك!

المدوّنات تستثني النساء، لكنّ مرويّات جدّاتنا الفراتيّات تذكّر بزغاريدهنّ، ودموعهنّ، وذهبهنّ، ومكائدهنّ، وفطنتهنّ، وعشقهنّ... لقد كنّ نساء حلمن بزمان لا يُدفع فيه الأبناء إلى حرب أو موت، لكنّنا أمعنّا عميقاً في خذلانهنّ.

 

د. شهلا العجيلي: روائيّة، وأكاديميّة، أستاذة الأدب العربيّ الحديث في الجامعة الأميركيّة في مادبا. لها في الرواية "عين الهرّ" الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية 2009، و"سجّاد عجميّ"، و"سماءٌ قريبة من بيتنا".