عن النساء، أتحدّث..
كلّما كنت أقدّم ورقة بحثيّة في الكتابة النسويّة، كنت أقفز عن قضايا تعليم المرأة، وعملها، وحقّها في الإجهاض، وموضوعة التحرّش الجنسيّ، بوصفها من اهتمامات الموجة النسويّة الثانية تحديداً، والتي تجاوزها العالم، وكنت أقول إنّ علينا أن نفتح ملفّات ما بعد النسويّة، حيث ترتدي المرأة بزّة رجل الأعمال، وتضع أحمر الشفاه، و تكتب عن تفاصيل العالم كلّه، ولكن من غرفتها التي أضاءتها "فرجينيا وولف"، وبذلك يكون لزاماً على المرأة أن تنتقل إلى ملفّات أكثر سخونة، إلى الحفر في قانون الأحوال الشخصيّة: حقوق الزواج والطلاق، وحضانة الأطفال، والإرث، ومنح الجنسيّة للأولاد.. إلى أن استوقفتني يوماً صبيّة في إحدى المحاضرات، وقالت: مع احترامي للطرح، لكنّك لو عدت إلى الأعماق، ستجدين التحرّش الجسديّ شيئاً فظيعاً، إنّه أولويّة.
في الحقيقة أنا لم أستبعد ذلك الملفّ مطلقاً، ربّما غيّبتُه عن أوراقي لأنّ الخطاب الأدبيّ الذي تمّ تقديم التحرّش عبره، بوصفه قضيّة نسويّة، كان خطاباً مفتعلاً أحياناً، ومؤدلجاً في أحيان أخرى، أو قد هدف لإثارة في غير مكانها، لكن لا شكّ في أنّ معظم النساء لو عدن إلى جوارير الذاكرة المقفلة، لن يجدن شعوراً أقذر من ذلك الإحساس بالسطوة، والقهر، في اقتحام أعزّ ما يشكّل الهويّة، وأوضحه: الجسد!
أثبتت التجربة التاريخيّة العربيّة سريعاً أنّ الدخول في مرحلة النسويّة أو ما بعد النسويّة، ليس بفتح ملفّات محدّدة، وليس مسألة لغويّة على الإطلاق، وبذلك نكون قد أجهضنا جهود "جوليا كريستيفا"، التي تكتفي بوراثتنا للغة ملوّثة، بالتعالق مع الفكر حتماً. كما نكون قد قضينا على جهود الحركة النسويّة العربيّة، وحركات التحرّر المقنّعة كلّها، ذلك أنّ التحرّش، والتلصّص، والتعقّب، ما زالت أفعالاً قائمة وفاعلة تمارس ضدّ النساء، وكلّما أمعنت البنى الاجتماعيّة في استخدام وسائل الحداثة، استفحلت تلك الأفعال في فاعليّتها، مستفيدة من التكنولوجيا المتقدّمة، فيتمّ التحرّش بالمرأة عبر وسائل الاتصال من هواتف محمولة، ووسائل تواصل اجتماعيّ، ويتمّ التلصّص على بريدها الإلكتروني، وتعقّبها بالطرق ذاتها، التي تؤدّي إلى فظائع يتقاطع فيها إرهاب الأفراد للأفراد، وإرهاب الدولة للأفراد، ثمّ إرهاب المجموعات المتطرّفة لكلّ من الدولة والأفراد، فحينما تعتقل النساء بتهم سياسيّة، ويسمّين سجينات رأي مثلاً، تتمّ معاقبتهنّ جندريّاً، لا ثقافيّاً، ولا سياسيّاً، إذ يتعرّضن للتعنيف اللفظيّ الذي له علاقة بجنسهنّ، ثمّ للانتهاك الجسديّ. وبالطريقة ذاتها ينتقم الرجل من امرأة ما، بفعل لفظيّ يخصّ الجسد، أو بفعل جسديّ مباشر، ثمّ تستنكر المجتمعات بمؤسساتها الحكوميّة، وبمنظّماتها المدنيّة، العنف الذي تمارسه الجماعات المتطرّفة، والدينيّة تحديداً، تجاه أجساد النساء، وكأنّ ذلك الغيم ليس هو الذي أتى بهذا الوابل!
لا يعنيني كثيراً سؤال الميثولوجيا، ولا الآركيولوجيا، ولا الأنثروبولوجيا، حول أسبقيّة التراتب الألوهيّ، وحول أسبقيّة التشكيل المجتمعيّ الأموميّ أو الذكوريّ، وأنّ الإله الذكر، ربّ الحرب العبرانيّ، ألغى الإلهة الأنثى ربّة السلام، وأنّ ليليت لم تخلق من ضلع آدم، بل نفرت منه، فاستكانت إليه حوّاء التي خُلقت بوصفها جائزة ترضية، ذلك كلّه لايهمّ، لأنّك حينما ترقب عيون المرضى في قاعة انتظار في مستشفى للسرطان، ستجد الخوف ذاته في عيون النساء والرجال على حدّ سواء، وحينما يسقط الصاروخ على دار ما، تفرّ النساء والرجال بالسرعة ذاتها، ولكلّ منهم يومئذ شأن يغنيه!
نتحدّث اليوم بكثير من الأسى والتفجّع على زمن المعارك النبيلة التي خاضتها المرأة للحصول على حقوقها، أو للوصول إلى تسويات مع المؤسّسة، الذكوريّة غالباً، لأنّ الحقوق ذهبت بذهاب أصحابها، والمؤسّسة قيد الانهيار، وإنّ كلّ من وقف ضدّ المرأة في نيل حقوقها شجّع التطرّف، وأوصلنا إلى هنا، إلى النقطة العمياء، إلى الفجوة السوداء، إلى.. هات ما شئت من مصطلحات العلم، التي يصف بها عجزه عن المعرفة، فنحن نقف هنا، وهذا الـ (هنا) سمح الرجل بالوصول إليه حينما كان قادراً، فالرجل اليوم معطّل عن القدرة، ذلك أنّه يذبح بالطريقة ذاتها التي تذبح بها المرأة، وبالسكين ذاتها.
ذلك الرجل هو شقيق الرجل الذي ساهم في الاعتداء على النساء في حروب التطهير والإبادة، بوصفهنّ حاملات رمزيّات للشرف، والهويّة، ومنجبات للسلالات العرقيّة، والذي كان يظنّ أنّ حروب التطهير تلك، ستبقى محصورة في يوغسلافيا، وراوندا، وجنوب السودان!
لا شكّ في أنّ الرجل اليوم قد عاين تماماً، تحت حكم الجماعات المتطرّفة، شعور القهر، والهوان، والانسحاق الذي ينشأ حينما يتحكّم شخص، باسم وصاية ما، بلباسك، وطعامك، وعملك، ورغباتك، ويطردك من بيتك، وأرضك، وما تراه حقوقك! إنّه الشعور التاريخيّ الذي أشعرت به المرأة، وهذه الجماعات صورتكَ المتعاظمة في المرآة يا عزيزي!
لعلّ الأنكى من هذا وذاك، هو النساء اللّواتي يؤيّدن الوصاية العمياء بحجّة أنّها تحميهنّ، وتريحهنّ من أعباء الحياة، وتجعلهنّ مثل أميرات. إنّهنّ الوجه الآخر للمتبرّعات بأجسادهنّ إلى ما يسمّى بجهاد النكاح.
لم يخطر في بال من وقفوا ضدّ النساء في معاركهنّ، بل ساهموا بتعنيفهنّ، أنّ قتل المرأة لأنّها مختلفة في الجنس، هو ذاته قتلها لأنّها مختلفة في اللّباس، وهو ذاته قتلها لأنّها مختلفة في العرق، أو في الدين، أو في الطائفة، و بالنتيجة هو ذاته قتل الرجل لأنّه مختلف ثقافيّاً، لا يصلّي مثل صلاتك، ولا يلبس مثل لباسك. إنّها في الجوهر فكرة قتل المختلف، والانتقام من اختلافه.
هل أبدو في حديثي هذا نسويّة! ربّما، لكنّني بالتأكيد إنسانيّة، وهذا ما أرومه. لقد رأيتم مؤخّراً تلك الصور الموبقة، رأيتم رؤوس النساء الجميلات والجليلات والقبيحات، معلّقة على حراب المتطرّفين، يتناثر شعر ضفائرهنّ المدمّى، ورأيتم أجسادهنّ الصغيرة ترجم لاختلاف لباسهنّ، أو لاستعمالهنّ بدع الحداثة التكنولوجيّة، لابدّ من أنّكم فجعتم بالمشهد، فما بالكم بمن عرف أولئك النساء عن قرب، وأنتمى إليهنّ! إنّ بلاغة الصورة لم تكن كافية، وفاقاً للصمت المريع الذي أعقبها، لذا كان هذا المقال.
- روائيّة، وأكاديميّة، أستاذة الأدب العربيّ الحديث في الجامعة الأميركيّة في مادبا. لها في الرواية “عين الهرّ” الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية 2009، و"سجّاد عجميّ".