عن الشخصيّة التي غدرت بي

عن الشخصيّة التي غدرت بي
الرابط المختصر

 

 

كنت أدّخرها لتكون إحدى شخصيّاتي الروائيّة. كانت جارتي، تكبرني بما يزيد على عشر سنوات، نقف عند الظهيرة حين أن يأوي الناس إلى قيلولتهم بعد الغداء، كلّ منّا على شرفتها، ونتحدّث طويلاً، وكأنّنا في زيارة من زيارات أمّهاتنا لأخريات، ونراقب المارّة الذين كانت تعرفهم جميعاً تقريباً، وتحكي لي حكاياتهم التي قد تخفيها زواريب مدينتنا الصغيرة!

 

كانت من الناشطات في متابعة الأفلام الهنديّة على أشرطة فيديو، في حين كنت بعيدة جدّاً عن ذلك العالم الذي تبهرني بحكاياته الباذخة، بل كانت تحفظ أغاني تلك الأفلام، وتؤدّي بعض رقصاتها في أعراس الأقرباء، وهي ترتدي بدلة الساري البرتقاليّة التي أحضرها لها أحد إخوتها من السعوديّة.

 

تحدّثني طويلاً عن أحلامها، وأحلامها بالنسبة إلى طفولتي المحصورة بقراءة القصص وركوب الدرّاجة الهوائيّة كانت غريبة وغير ممتعة، ولا تستحقّ العناء. كانت تنتظر أن تغادر لأيّ سبب عالمنا الصغير الذي يعدم الهايبر ماركت، حيث تقاليد صارمة، وجلسات نميمة كنّا نظنّها أخطر من القنابل الفراغيّة. حدّثنتي عن حلمها في السفر إلى أميركا، وعن رغبتها في اقتناء سيّارة (بويك) مكشوفة السقف، وبلون خمريّ، تركبها وهي ترتدي فستاناً من الشيفون الخمري أيضاً، ويطلّ من حقيبة يدها الصغيرة كلب أبيض اللون من تلك الكلاب القزمة، وأنا مازلت أتساءل عن سبب تركيزها على  (البويك) تحديداً وعلى ذلك اللون الخمريّ، وعن الغاية من وراء تنسيق لون السيارة مع لون الثوب، ولا أجد جواباً مقنعاً! بالمناسبة كان لديها (هارون) قطّ كنت أراه مقرفاً جدّاً، ولعلّه كان السبب في فوبيا القطط التي أصابتني في مرحلة متأخّرة نسبيّاً من مراحل طفولتي.

 

أفتقدها لمدّة شهر تقريباً في صيف ما، لتعود لاحقاً وقد فاجأتني بأنفها الجديد، لقد سافرت إلى العاصمة وتخلّصت من إحدى العقد التي كانت تتصوّرها، وهي أنفها الطويل، الذي كنت أراه جذّاباً، إذ يمنحها حدّة تخفّف من بعض السذاجة التي كنت أشعر أنّها تمتلكها، لكنّ المشلكة تفاقمت إذ بدا أنفها معوجّاً وقبيحاً، وضحكت كثيراً وهي تقول إنّ الطبيب أجرى لها أفشل عمليّة تجميل في تاريخه. لم تكن وقتها عمليّات تجميل الأنف رائجة كما هي اليوم، لكنّها كانت رائدة، ومغامرة، وتهوى التجريب، ومنها عرفت أوّل مرّة الفرق بين عمليّة قصّ العظمة التي تنجح أكثر من تجميل الغضروف. المهم: تأتي أيّام وتذهب أخرى، وأنا أراكم تفاصيل صورتها في عقلي الذي يبني نفسه على أسس عالم الكتابة، كما بدا لاحقاً، أغادر لسنوات،  ثمّ تأتي الحرب...

 

منذ أيّام قرأت على الفيسبوك خبر رحيلها المؤسف، وبصعوبة استطعت أن أجد أحداً من عائلتها لأتواصل معه بعد أن تشتتوا في أماكن عدّة، بين تركيّا والسعوديّة وأميركا. في الحقيقة لم تمت شخصيّتي من الجوع في مضايا، ولا بقذيفة في أحد شوارع دمشق، ولم يعدمها أحد في الرقّة، ولم تصب بإنفلونزا الخنازير في حلب... لقد غادرت منذ خمس سنوات إلى فلوريدا حيث أخوها الطبيب يعيش منذ زمن طويل، وحصلت على السيّارة والثوب والكلب، ووجدت في صباح عاديّ وقد فارقت الحياة، وقد شخّص سبب موتها على أنّه داء الحنين الذي يشتدّ على أصحابه وقت الحرب!

 

بالنسية إليّ لم أعد أستطيع ادخار الكتابة عنها لرواية، كان لابدّ من أن أتشارك تفاصيلها، وموتها مع أحد ما، سريعاً سريعاً، على الرغم من صبري الطويل على مدّخراتي عادة، لكنّ الكتابة أيضاً مثل الموت مباغتة ومؤسفة، والشخصيّات أحياناً تغدر بالروائيّين، وتختار مصيرها بعيداً عنهم.

 

د. شهلا العجيلي: روائيّة، وأكاديميّة، أستاذة الأدب العربيّ الحديث في الجامعة الأميركيّة في مادبا. لها في الرواية “عين الهرّ” الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية 2009، و”سجّاد عجميّ”، و”سماءٌ قريبة من بيتنا”.