عندما خجلوا من مقالة
ضرائبٌ كثيرةٌ يدْفَعُها الكاتبُ إذا غردَ خارجَ السربِ وهمَّ بنظرةٍ واسعةٍ ورؤىً اعتَصّرها من معارفه وقراءاته الفكرية، وهذا حقٌ يصادقُ عليه أرشيف التلقي الصادم في شرقنا المتأثر بدينه حد الضياع، وفي المقال تحديدًا ثمةَ زبدةٌ رجّها عقل صاحبها واستخلصها بهذا الجنس الأدبي المُقولب بحسِه الصحفي، وبسبب هذا التكنيك ترى الثنائية المستهدفة بهذا المقال (الناس والسلطة) بين خيارين، الأول استحسان السواد الأعظم من الناس والثانية انقسامهم بين صفين، الأول يدافع عن رؤية صاحب المقال التي تمثله، والثاني مناوئٌ شرسٌ لها ويقلدُ نفسه منصب الذائد عن حمى الناس برفضه للمقال وصاحبه لأنه لا يشبهه وفق قناعته ولا يشبه من يتفقون معه وفق قناعته وحده أيضًا.
وفي باب السلطة باعتبارها الجزء الثاني من الثنائية المستهدفة، فالسلطةُ منوطةٌ بمدى مسّ المقال لسلطتها ثم هيبتنا وقداستها كما يحدث في الأردن، التي تزج هيبتها وخشونة ونعومة أمنها في مقال أو تظاهرة أو حتى منشور على مواقع التواصل، وفي هيبة السلطة نرى بعض المقالات المغضوب عليها في منظار السلطة لا تستند على فكرة عميقة أو نداء مفصلي للناس، بل يمكن محاسبة كاتب المقال بناءً على اللهجة والنبرة والاصطلاحات المستخدمة في المقال، بشيء من النديّة، ومن هذا ما حدث مع الصحافي الأردني المعروف قبل سنوات عندما سُجن بسبب تهكمه على وزير سابق وفضح علاقة شخصية بين الصحافي والوزير.
وعلى النقيض من هذه السلوكيات الصحفية الممجوجة دونك مثلًا المقالات التي راجت مؤخرًا حول "داعشية مناهج التربية في الأردن" وتطرف وإقصاء الآخر في التعليم الأردني، على يد العديد من الكُتَّاب والكاتبات الأردنيين، ولم يمسسهم سوء في هذا الباب بإشارة من السلطة إلى "اصلحوا المجتمع على الورق ولا تقتربوا من قبعاتنا"، لنكون أمام سيلٍ ديمقراطيٍ جارف في عيون كُثر، لكن الدولة تهمل كل هذه المقالات (في باب المناهج) ولم ترسل نائبًا واحدًا لها ليسمع ما يقوله التربويون النجباء، ليجعلوا جهودهم في سياق الكلام فقط، ولتمسي الديمقراطية التي يسمح لهم باستخدامها أداةً من أدوات التفريغ التي يمارسها كاتب ساخر في الصحف المحلية أو كاتب من كتاب التدخل السريع.
تقومُ الدولةُ الأردنية بمقاربةٍ بين الشكل والمضمون (دون قصد طبعًا) ففي الشكل نحن أمام مقال ضمن مفهومه الأدبي المنفصل وفي باب المضمون نحن أمام مضمون فعلي يضج بالاختزال والجانب المعرفي الذي يتبنّاه الكاتب ويسبغ عليه ألوان طيف المختلفين والمتفقين على طرحه، وتكمن هنا لمسة الدولة التي تطمس المضمون بمراعاتها للشكل ومحسابة الكاتب عليه، فعندما يحرر المحررُ المقال يفرد له مساحةً مستقلةً ويضعُ العنوانَ ويحافظ على نمط الخط الموحد ولا ضرر من ترك مساحةٍ بسيطةٍ للهوامش إزاء الكلمة التعريفية بالكاتب في ذيل المقال، وأن لا ترى المضمون فهذا يعني أنك تكتفي بالشكل، ولن نبالغ لو قلنا إن الدولة الأردنية تخالف النظريات النقدية الحديثة بابتكارها لـ "شكلانية المضمون" و"مضمون الشكل". وفي المحصلة، لا جدوى من مساحة الديمقراطية التي تُعلم الكاتب الخرس دون إسكاته، لأن صوته يصل بقوى في خضم الخرس الحكومي المطلق والاستجابة النفسية للعامة التي فُتِكَ بذائقتها وتأسلّم انطباعها بنهجٍ رجعيٍ اشتغلت عليه الدولة طويلًا.
بين مساحات الدولة المحسوبة بدقة فوضويّة، نسمع الصخب الشعبي في مجتمع متدين بتدين وزارته المفصلية (التربية والتعليم) التي توارثها التيار الديني جيلًا بعد جيل، ويكفي على الكاتب أن يكتب مقالًا واحدًا يطرح فيه طروحات العلمانية والدولة المدنية ليكون شيطانًا وخارجًا على الملة، ففي مجتمع مفصلي كمجتمعنا المتدين بطقوس ومعارف شعبويّة، لن يتطهر هذا الكاتب من رجس مقاله حتى لو كتب في مواضيع أخرى، ففي مسافة الصفر الخوارزمي بين "معي أو ضدي" تترك الدولة كاتبها يقدم رؤاه ليفترسه الناس من خلال لاوعيهم الذي شكلته الدولة ومؤسساتها في باب الدين وحرية الاعتقاد والنقد الديني المرفوض، فالتجديف والزندقة والدهرية والهرطقة والرافضي والردة ... وسائر الصفات التي يتسخدمها الأردنيون، ما انفكت سارية في أذهان أكثرهم منذ القرون الوسطى، وتتأجج كلما هاجموا كاتبًا، ربما كان السبب غياب التفكير في مناهجنا التعليمية ووسم هذه التيارات العقلية بالكافرة من خلال ما يُبَث في المساجد والمدارس، ممّا أدى إلى تردي مناخ التلقي ورجعية لا فكاكَ منها إلا بجدية الدولة وسماع الآخرين بإصاخة، دون إفراد المساحات للمقالات وتناسي الدولة لها، لا سيما إنها قدمت مجتمعًا يرفض الآخر رفضًا قاطعًا في سواده الأعظم.
في معمعة تراشق الأفكار والتُهَم التي كان آخرها ما حدث مع الكاتب الصحافي باسل رفايعة الذي يواصل كتابة المقالات المفصلية والجادة حول مدنية الأردن واحترام الرأي الآخر وتعرية التطرف بالفكرة والمحاججة ومعه الكاتبة والباحثة زليخة أبو ريشة التي تجاوزت تهمها الزندقة والإلحاد ووصل الأمر بالجناة إلى تهم الأخلاق والتآمر، وما يحدث مع رفايعة وأبو ريشة يثير عشرات الإسئلة حول الخطاب والتلقي في الأردن، وكذلك قابلية إعادة التفكير بما وصف بالمُسَلمَات، والصراع بين الرجعية والتقدمية.
أن توصف بأنك "تنويري" على صعيد الاتهام والإدانة، فهذا يعني أن معنى التنوير بذاته غائب! فكيف يتوجب علينا أن ننشر معنى التنوير في السنوات القادمة، قبل أن نشرع في بسطه وعرضه؟ ومن الذي سيحمي كتاب المقالات -غير المسموعة أصلًا- من اتهامات الجامعيين وخريجي وزارة التربية والتعليم، الذين يجهلون معنى "تنوير"؟
- علي عبيدات: شاعر ومترجم أردني