عندما تفقد "اللعبة السياسية" مشروعيتها
مهما تعددت وتنوعت أساليب الحكم العربي في التحايل على الإصلاح السياسي واجتراح سياسات "تجميلية" لواقع الاستبداد المقيم، فإنّ النتيجة التي نخلص بها من خلاصات دراسة جديدة لمؤسسة كارنيغي الأميركية الجديدة هي المقولة المعروفة: "كلّنا في الهمِّ شرق".
الدراسة جاءت بعنوان "فُرَص التعدّدية وحُدُودها: واقع القوى السياسية في العالم العربي"، وقد أعدّها كلٌّ من مارينا أوتاوي ود.عمرو حمزاوي، وتحيل الدراسة السبب الرئيس في انسداد آفاق الإصلاح السياسي إلى "الاختلال في ميزان القوى" بين النظم الحاكمة ومعها الأمن وبين القوى السياسية المعارضة التي تطالب بالإصلاح.
بالنتيجة، فإنّ النظم العربية، التي فوّتت موجات التحول الديمقراطي في العالم بمهارة فائقة، لا تشعر بضغوط داخلية شديدة عليها، تجبرها على تقديم "تنازلات" باتجاه الإصلاح السياسي، فيما يقدّم العامل الخارجي (سياسات الدول الكبرى)، دوراً داعماً للدول العربية على حساب حقوق الشعوب ومشروع الإصلاح.
الملاحظة الذهبية يقدّمها حمزاوي وتكمن في أنّ سعي النظم العربية دوماً لإحكام السيطرة على الحياة السياسية "تأميمها"، ويأس الشعوب وإحباطها من القدرة على تحقيق تغيير سلمي من داخل "اللعبة السياسية"، حدّ من نسبة المشاركة السياسية والشعور بجدواها، وخلق ظواهر جديدة "تحوّل الإقبال الشعبي العربي من المشاركة في العمل السياسي إلى الانخراط في حركات الفَـوَران والاحتجاج الاجتماعي والإضرابات، للحصول على مكاسِـب اقتصادية، وكلّـها ممارسات خارج العمل السياسي من أجل الإصلاح".
خلاصة الأمر أنّ "أنظمة الحكم العربية حالت دون دخول الحركات الشعبية المحتجّـة إلى حلبة العمل السياسي التقليدي، وهو ما يحمِـل في طيّـاته خطر التطرّف والنزوع لاستخدام العنف".
هي ملاحظة مهمة وجديرة بالتوقف عندها جيّداً، فخلال المرحلة السابقة أفشلت النظم العربية مشروع ترسيخ قواعد العمل السياسي والحزبي المنظّم، الذي يسمح بتعددية سياسية وتداول سلطة، ويخلق مساحات واسعة من الحريات العامة، ويكرّس ثقافة حقوق الإنسان، وتعبيد الطريق إلى المستقبل.
بدلاً من ذلك، فقد بدأت اللعبة السياسية تفقد زخمها ومشروعيتها، وثقة الناس بها. ولأنّ الظروف الاقتصادية تزداد سوءاً، وقدرة الناس على التحمّل بدأت تنفد، فإنّ النتيجة ازدهار ظاهرة الاحتجاجات والإضرابات والحركات غير المنتظمة، وغير المؤسسية، في العديد من الدول العربية خلال الشهور الماضية، وهي حالة تعكس أزمة الثقة والتواصل والمصداقية بين الحكومات والمجتمعات، ونتائجها تنزع إلى علاقة عنوانها العنف والتطرف والعداء ليس فقط بين الأنظمة وتلك الحركات، بل حتى داخل المجتمعات نفسها.
أحسب أنّ هذه الدراسة المهمة والخطرة لمؤسسة كارنيغي لن تجد أذناً مصغية من الأنظمة العربية، ليس (فقط) لمحدودية نسبة من يقرأون من النخب الرسمية، بل لأنّ المؤشرات والحوادث كلّها التي تطرق "جدران الخزّان" لم تفلح في تنبيه المعنيين إلى انتقال الأزمات من محدودية الصراع مع المعارضة التقليدية إلى مساحة واسعة جداً من التوترات الاجتماعية والسياسية مع حركات لم تعد تقتنع بقواعد اللعبة نفسها!