عناد في غير محلّه!

عناد في غير محلّه!
الرابط المختصر

هل مثّلت عودة العنف والاحتجاجات والمظاهرات والاشتباكات بين سكان من محافظة معان والأمن أمراً مفاجئاً لنا؟! الجواب: لا، لأنّ الجميع، حكومة ومعانيين، كانوا يدركون تماماً بأنّ الأزمة لم تنتهِ في الأسابيع الماضية، بقدر ما أنّها سكنت قليلاً وخمدت نيرانها بانتظار عود ثقاب جديد، كما حدث مؤخراً!

للأسف، تبدو المفارقة أنّ النقاشات والحوارات التي تتم بين الحكومة وممثلين عن محافظة معان تخرج تماماً عن الأسئلة المركزية المهمة، وتذهب باتجاهات سطحية ومواقف مسبقة، ليضع كل طرف اللوم على الآخر، ويبقى الحوار الجاد المعمّق غائباً والأزمة تتراكم وتتدحرج وشكوك المواطنين في المحافظة تزداد وتتجذّر حول وجود "شيء ما" و"قرار معيّن" لتأديب المدينة منذ العام 1989!

الرواية الرسمية تفسّر أحداث معان عبر الإصرار من قبل الدولة على فرض القانون والأمن على المدينة ورفض العصيان والتنمّر وتوفير "شبكات حماية" للمطلوبين والخارجين على القانون، فيما تختزل الحكومة إشكالية العلاقة مع المحافظة في قصة الخلاف حول "أراضي المكرمة الملكية" في موقعها والتعامل معها، وفي الحقيقة هذه الرواية بعيدة تماماً عن الاقتراب من جوهر الأزمة، ولعلها الدليل الناصع الواضح على فشل الحكومة ليس فقط في حل الأزمة في المدينة، بل في إدراك ماهية الأزمة والمشكلة في المحافظة.

الردّ على الرواية الحكومية ليس أمراً صعباً، لكن الرسائل التي يمكن اختصارها في هذا المقال تتمثّل في أنّ حالة الخروج على القانون والتمرد والاستعصاء وتوفير بيئة حاضنة مسألة ليست مستقلة عن السياق الاجتماعي، الذي تذهب إليه المحافظة، وهو نتيجة إهمال وتجاهل طويل المدى خلال السنوات الماضية بأسرها، فالمشكلة لا تقف عند حدود عدد من المطلوبين توفّر المدينة حماية لهم، بل في سياق اجتماعي كامل يشعر بحالة من الاغتراب والغربة عن الدولة، وخصومة شديدة معها، سواء ظهر ذلك في انتشار التهريب أو المخدرات أو حتى رايات السلفية الجهادية والقاعدة، التي من باب المفارقة أصبحت تُرفع من قبل المطلوبين في إشارة مهمة (لا نجد من يقرأ ليلتقطها في عمان الغربية؛ الغريبة!) على تشابك واشتباك أبعاد الأزمة والمشكلة في معان.

لا أحد ضد سيادة القانون، ونسمع من أهل معان كلاماً مماثلاً وحرصاً على التخلص من هذه الحالة المقلقة لهم الضارّة فيهم، وأغلب الرأي العام الأردني وقف مع وزير التربية والتعليم ومع الحملات الأمنية في تطبيق القانون وفرض هيبة الدولة في مواجهة مختلف حالات الاستعصاء والتنمّر التي قامت على أكتاف سياسات الاسترضاء والتراخي الرسمي خلال الأعوام الماضية، لكن على الحكومة أن تدرك تماماً بأنّه من الخطأ الجمّ والعناد في غير محلة تفسير حالة معان بجملة "تأديب الخارجين على القانون".

ثمّة مشكلات تحتاج إلى إدارة سياسية حكيمة للتعامل مع التشابكات والتعقيدات المختلفة، أمّا الإصرار على الحل الأمني فسيأتي بنتائج عكسية، كما حدث مراراً وتكراراً، وسوف يعزز التوتر بين أهل المدينة والأمن العام، بدلاً من إيجاد مخارج ورؤى توافقية وخريطة طريق لإنهاء هذا السياق الاجتماعي المقلق المتنامي باتجاه القطيعة والانفصال السياسي بين الدولة والمجتمع المحلي في المدينة.

ثمّة أسئلة مهمة وأساسية يعرفها رئيس الوزراء والحكومة، يطرحها أهل معان والمراقبون إلى الآن لا نجد إجابات عنها، ولعلّها المدخل الصحيح للتعامل مع هذا الملف المعقد، من بينها قصة تسريب الصور والتسجيلات المصورة المسيئة للأمن ولأهل معان ومصدر ذلك، لما تؤديه مثل هذه التسريبات من زرع للفتنة والكراهية والأزمة، وثانيها السؤال عن الأسباب الكامنة في هذه التحولات الكبيرة في المجتمع هناك وكيفية علاجها.

الغد