عمّان تغرق في "المجاري" والغيظ

عمّان تغرق في "المجاري" والغيظ
الرابط المختصر

 

أقف في شارع المدينة المنورة، المسمّى بـ "شارع الجوعانين"، وفيضُ مياه الصرف الصحي العادمة قبالة المطاعم المتراصفة صفاً طويلاً، وألوان الأوساخ وآثارها تبقّع أرض المكان، والرائحة الكريهة انتشرت وغطّت على ازدحامه، وحتى على محتكري الحقيقة الذين يتولون توزيع الرحمة على البشر بحسب مذاهبهم وأديانهم.

لنترك الغيب وتفسيراته، ونعود إلى الواقع وأسئلته: من منَح أكثر من 50 مطعماً رخصة تنظيمية في شارع لا يتجاوز طوله 2 كيلو متراً (من دوار الكيلو إلى مستشفى الجامعة)؟ ولم يلتفت إلى أن ذلك يشكّل وصفة دائمة للازدحام لعدم توفّر مساحات كافية لاصطفاف السيارات التي أتى أصحابها لشراء وجباتهم، حيث تقدّر أمانة عمّان الكبرى عدد  المركبات التي تسلك المسربين من الشارع بنحو 100 ألف سيارة يومياً ترتفع أيام الخميس، ويظهر سريعاً أن كل محاولات "الأمانة" لتنظيم السير باءت بالفشل، ورغم ذلك نشهد كل حين افتتاح مطعم جديد.

ومن يُخبرنا إن كانت التمديدات الصحية تستوعب حجم ما تصرّفه هذه المنشآت، وبما قد ينجم عن تسرّبها من تلوّث للأطعمة المباعة وما قد يخلّفه من أمراض وأوبئة؟ علماً أن المارّة سينتبهون إلى أن كثيراً من أصحاب هذه المحال وغيرها، في المربع "الحديث" الذي يُطلق عليه عمّان الغربية، يلقون بمباه غير نظيفة مباشرة في الساحات الخالية أمام وخلف محلاتهم، خاصة في ساعات الليل المتأخرة.

شارع المدينة المنورة ليس استثناءً في انعدام التنظيم العمراني في عمّان، وما ينتجه من أزمات نقل ومياه وطاقة وكذلك من إنسان متشنج عصبي ّومتأهب للشجار بفعل الزحام وانخفاض مستوى الخدمات وتدني البنية التحتية مع مرور الوقت، وربما تستحق المسألة مناقشة مثال آخر، وهو شارع الخالدي الذي يحوي أكثر من مستشفى وتكتظ أبنيته بمئات المختبرات وعيادات الأطباء والصيدليات.

يحتاج المرء قرابة الساعة، في أوقات الذروة، لينتقل بسيارته من بداية شارع لا يتجاوز  طوله 1.5 كيلو مترا، إلى أي مجمع طبّي ينوي ارتياده، وسيصدم بقلّة أماكن الاصطفاف مع ازدياد عدد السكان في العاصمة، ونسبة المرضى منهم، وعليه ألاّ يتفاجأ إذا حاز مخالفةً لأنه ركّن سيارته في مكان غير مخصص، أو صُدمت مركبته على يد أحد موظفي الفاليه غير المؤهلين الذين ينتشرون في المنطقة.

في شارع الخالدي يتوّجه المرضى ومرافقوهم بأعصاب مشدودة لتلقي العلاج، وحتماً ستؤثر حالتهم النفسية وهم ذاهبون ورائحون سلباً عليهم، كما يلحّ السؤال عن مصابين ينقلون بسيارات الإسعاف إلى مستشفيات توجد في قلب الازدحام، وقد تسوء أوضاعهم الصحية أو تزهق أرواحهم قبل أن يصلوا إلى سرير الشفاء، وهو ما يعدّ انتهاكاً صارخاً لحق الإنسان في الحياة يقع بسبب الفساد وسوء الإدارة في تأسيس مدننا.

الحلول الترقيعية لأزمات "المدينة والمنورة" و"الخالدي" لن تنجح حتماً، حيث أن عمّان مثْل غيرها من مدنٍ فاشلةٍ في العالم الثالث حُرمت من تخطيط حضري تتشابه به جميع مدن العالم، إذ تنحصر الأسواق وأماكن العمل والترفيه في وسط المدينة الذي يرتبط بطرقٍ تؤدي إلى جميع الأحياء السكنية، ولا تُمنح أي تراخيص تجارية على هذه الطرقات، مع السماح بفتح بعض المحلات والمرافق التي تقدّم سلعاً وخدمات أساسية في كل حي.

احتشاد عمّان بمقاهٍ ومطاعم ونوادٍ ليلية ومولات، يقابله افتقاد للمنتزهات والمكتبات العامة والملاعب الرياضية والساحات وغيرها من الفراغات الحضرية، وربما أنتج غيابها إلى إمكانية التواصل الإنساني بين أهل المدينة، وأوصلنا التنافر والعشوائية في تنظيم الأحياء السكنية والتجارية إلى تكريس مواطن متعصبٍ في رأيه، ولا يقبل التعدد والاختلاف، فحيثما انتقل في مدينته سيقع على نسخة مشوهة واحدة للعمران تناسخت في معظم المناطق!

كارثة ماحقة أن لا نجد في المستقبل القريب مكاناً قابلاً للحياة من أجل تحقيق الإصلاح عليه وبناء عقد اجتماعي جديد ينظّم دولة حديثة، إذ ستغرق كل مدننا في المجاري ومجاميعها البشرية التي تسكنها في الغيظ.

 

محمود منير: كاتب صحافي. محرر “تكوين” في “عمّان نت”.