أدوار متشابهة تجمع المفتي ومذيع البث المباشر، وليس من قبيل الصدفة مبالغة السلطة في الاعتماد عليهما مع انحسار دورها الاجتماعي والاقتصادي؛ فكلاهما يتعامل مع السائل الذي يلجأ إليه بوصفه فرداً لا عضواً في المجتمع، وبذلك تُنزع مشكلته عن سياقها العام وتغدو حالة فردية يمكن معاينتها من خلال تقصير العبد أو تقصير المسؤول لا باعتبارها أزمة دولة ومجتمع!
استمعت إلى مفتي عام المملكة، على أثير الإذاعة الرسمية، يحرّم العمل في المؤسسات الربوية، ويدعو المتصل إلى أن تترك زوجته وظيفتها في بنك أردني من دون أن يرف له جفن لتصوّر مشهد عشرات آلاف العاملين في البنوك يفترشون الطرقات بعد تخليهم عن وظائفهم، بل سيبادر ساعتها إلى تحريم اعتصاماتهم في حالة لجوئهم إلى الاحتجاج على بطالتهم، كما حدث وأصدر فتاوى مماثلة في مرات سابقة، في عهده، تحرم التغيب عن العمل دون عذر تزامناً مع الإعلان عن إضراب المعلمين.
لا يشغل بال سماحته سوى "الربا"، رغم وجود فتاوى تبيحه، علماً بأنها صدرت عن رجال دين يتبنون المدرسة الفقهية نفسها التي تتبعها دار الإفتاء الأردنية، ومنها على سبيل المثال الفتوى الشهيرة لمحمد سيد طنطاوي، شيخ الأزهر الراحل.
الأخطر من ذلك، هو تحريم عمل موظف في بنك مقابل السكوت عن الدولة التي تتعامل مع البنوك المحلية والدولية في الاقتراض وتسيير معاملاتها المالية كافةً، فقط لأن الموظف يظن أنه يواجه معضلة "وجودية" في حياته، بينما يتحول الإفتاء إلى آلية للسيطرة والضبط الاجتماعي حين يتعلق الأمر بالسلطة!
لا تتوقف ازدواجية المعايير عند حدٍ، فـالربا هو جزئية بسيطة ينظر إليها المفتي على قاعدة حض الأفراد على عدم العمل أو الاقتراض أو التعامل مع البنوك "الربوية"، لكنه غير مشغول باعتبارها حلقة من سلسلة أوسع وأشمل تتصل باحتكار الثروة وتحالفات المحتكرين الذين يديرون الدول كما تدار الشركات.
إذن، نكون أمام مسارين إثنين؛ فتوى مخصصة لأفراد منفصلين عن واقعهم الاجتماعي قد تخالف الدساتير والقوانين المتبعة، وفتوى تعمل لتثبيت السلطة، ولم تتبدل غاياتها عبر التاريخ، خلافاً للحقيقة القائمة على أن الإسلام لم يدعْ إلى وساطة بين العبد وربّه، إذ تواصل اختلاق وساطات متعددة: الواعظ، الداعية، المفتي، الإمام، العالم، الشيخ..
بموازاة ذلك تحتشد إذاعات تقام أساساً من أجل عرض برنامج البث المباشر، الذي يقدمه مذيع متخصص في استعراض سلطته على الهواء وانتقاد أخطاء المسؤولين "الصغيرة"، التي تحتمل بعض العتاب والصراخ أحياناً، بناء على شكوى متصلٍ لم يستطع أن يحلّ قضيته عند المؤسسة المعنية حتى ترسخت هذه المهزلة كونها الطريقة شبه الوحيدة في مراقبة أداء السلطة وتقويمه.
غاية أساسية لا حياد عنها بالنسبة لمذيعي البث المباشر، ومفادها أن المواطنين هم مجرد أفراد عليهم إسداء الشكر والولاء جزاء حل مشاكلهم عبر حرفها عن مسارها الفعلي، فلا يعاني مجتمعنا –مثلاً- أزمة تعليم كبرى تستدعي حلولاً جذرية، إنما هي مجرد غلطة صغيرة لمدرس هنا، أو زلة لسان لإداري، أو نزوة عابرة لمسؤول هناك، وكثيراً ما تجري التعمية على المخطئين والأسباب الحقيقة وراء عجزهم بذريعة "طرح القضية بعيداً عن الشخصنة أو تمثلاتها الملموسة".
ينبغي التذكير بأن هولاء لا يقدّمون خدمات خاصة في مكاتب أو عيادات؛ بل يمثلون السلطة فينطق المفتي باسمها ويتقاضى منها راتباً شهرياً يساوي راتب وزير، ويبارك مواقفها إذا اقتضت الحاجة مباركته، بينما يرتبط مذيع البث المباشر بها، وتخوّله الجهات المعنية بالدفاع عنها بشراسة كلما استدعى الحال عبر إطلاق تهم التخوين ضد خصومها.
حين تتراجع الدول في إنجازاتها، كماً ونوعاً، تسارع أجهزتها إلى ممارسة شتى أنواع الدعاية لمنجزات وهمية، والتحريض ضد المشككين بها، ولا يتحقق ذلك إلاّ نُمنح عضوية مشروطة في المجتمع؛ مواطنون عند تسديد الضرائب والواجبات، ونتحول إلى أفراد في حال انتقصت حقوقنا وسلبت حريات، وخير نماذج صالحة للقيام بهذه المهمة هم رجال الدين والإعلام.
في هذه اللحظة تحديداً، يغيب الحديث عن العدل في الإدارة والحكْم، ويجري التركيز على "إنسانية" المسؤولين والزعماء ولطفهم الغامر في تعاملهم الأسري ومع أفراد المجتمع!
- محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.