من أكثر الكلمات التي أثارت حماسة بعض الحاضرين في افتتاح القمة العربية التي اختتمت أعمالها أمس في مدينة سرت بليبيا، كانت الوحدة العربية. فقد ردت بعض الشعارات الحماسية الناس إلى زمن المجد العربي الغابر، حين كان للعرب حضورهم وشكيمتهم وبأسهم الشديد.
أما الآن، فما عادت لشعارات الوحدة، على نبلها، تلك السطوة على العقل العربي الذي يدرك بعين التجريد التحليلي المحض أن مقومات الوحدة العربية آخذة في التآكل والابتذال.
الرئيس اليمني علي عبدالله صالح الذي تهدد نيران التفرق والتشرذم دولته، كان أكثر المتحمسين لخيارات الوحدة، ليس على الصعيد اليمني وحسب، بل على الصعيد القومي، وقال ما هو بديهي: قوتنا في وحدتنا، فصفق الحضور في قاعة سرت الفخمة، وراح بعضهم يهتف بحماسة تذكّر بفترة المد القومي والتحرر من الاستعمار خلال منتصف القرن المنصرم.
وثمة من يناقش في وجوب وضرورة تحقق الوحدة العربية، وكأن الجماهير الممتدة من الماء إلى الماء تعارض الاتحاد. وثمة من هم أشد إسرافا في القفز عن الحقائق، حين يحشدون لرأيهم في أهمية الوحدة العربية، بمقارنة أحوالنا المتردية بمآلات الوحدة الأوروبية، رغم الفارق الحضاري الشاسع بين الحالتين.
معطيات أوروبا في التوحد، ليست متوافرة في الذهنية العربية التي اعتادت على "الاستقلال" حتى لو كان هذا الاستقلال انفصاليا يمكن أن يهدد النسيج العام للأمة والبشر. ألسنا نحن من يروج القول البائس: "العب وحدك، تيجي راضي"؟ ألسنا نحن من نهتف، بكل ما في عروقنا من نبض، للدولة القطرية، وننظر لها.
ثم، دعونا نستذكر مشاريع تجارية صغيرة ابتدأت بشركاء ثم انتهت بانفصال كل شريك عن الآخر واستقلاله بمحل صغير يحمل العلامة التجارية ذاتها، لكنه لا يرتبط بأواصر صلة بين الشراكة الأولى. وغالبا ما يكون المنفصلون إخوانا أو أبناء عمومة.
وكم مشروعا فنيا وإبداعيا بدأ بالتكتل ثم أصيب بلوثة الانفصال، أو "الاستقلال" على قاعدة "العب وحدك.."؟!
وهل بمقدورنا أن نستنتج بأن العقل العربي المعاصر عقل انشطاري وليس عقلا توحيديا، بمعنى أنه ليس عقل جماعة، وإنما عقل فرداني، بدلالة ندرة الأعمال الموسوعية الجماعية، وانقراض اشتراك مؤلفين أو أكثر في عمل واحد.
ولأنني ممن يعتقدون أن المشاريع الكبرى تبنيها الحرية والفكر والمصنع، فإن من الضروري، قبل أن نترك لألسنتنا الهتاف ولأكفنا التصفيق، أن نوطّن قيم التفكير النقدي العقلاني الذي يؤمن بالوحدة والاختلاف في مناخ حر يؤسس لقيم المماهاة مع التجربة الأوروبية في الوحدة والحضارة والتقدم.
المسألة برمتها تتصل بالثقافة، وبقبول الآخر الشقيق والجار والمشترك معنا بالمصير والجغرافية والأحلام العادلة.
ليس تنظيرا، ما أقوله، لكنه، معاينة لتلك الحشود التي صارت كلمة الوحدة تهز وجدانها، وتجعلها تحلم، ولو لبرهة، بزمان لا يمكن استعادته، أو تدشين زمان مستقبلي مغاير أو على شاكلته، بالتمنيات التي تنتهي بمجرد انتهاء الخطاب والترجل عن المنبر.
لماذا غرست فينا الثقافة المتوارثة "العب وحدك، تيجي راضي"، بموازاة "امشي الحيط الحيط وقول يا رب الستر"، فصرنا نتعوذ من الشيطان الرجيم كلما تجرأ أحد على حيطاننا العالية، وجزرنا المعزولة.
عدتُ مساء أمس من "سرت" موجوعَ القلب، فلقد تجشمنا مشقة سفر طويل، ورجعنا بالحسرة على وطن عربي يحلم أفراده جميعهم بالوحدة، ويمارسون جميعهم، في الوقت نفسه، التمزق والانحيازات القطرية، ويبدعون في إنتاج الخدر، والاستسلام.. والكراهية!