عاهد حدادين
في صغري، كنت بينما أقلب صفحات الألبوم العائلي، أجد بين صور الجد والأب والأم والأشقاء والأقرباء وأصدقاء العائلة المقربين صورة مختلفة؛ كانت "بورتريه" بالأسود والأبيض لرجل يملأ وجهه الأمل والثقة، ومكتوب أسفلها بريشة خطاط: سيادة الرئيس جمال عبد الناصر..
ولسبب ما، لا علاقة له بخط الخطاط، فإن هذه العبارة، برسمها، كانت تعطي انطباعاً أنها تتحدث عن شيء معلوم البداية، غير أنه لا تعرف له نهاية، ويطيب للإنسان أن يتواضع أمامه.
اعتدت رؤية هذه الصورة جزءاً من الألبوم العائلي. وكانت الصور تتبدل أحياناً في الألبوم بمرور الوقت، وتأخذ بعضها مكان بعض، أو تُدس الجديدة منها فوق القديمة، أو يتم نقل بعض قديمها إلى ألبومات جديدة وفرتها محلات التصوير في الثمانينات كهدية لدى تحميض الأفلام الجديدة..
ولكن تلك الصورة بقيت مكانها..
في الأثناء، على مدار السنين، كانت يافطات تُعلق في الشوارع، وتُرفع صور باحجام كبيرة، وأحياناً بالغة الحجم، ولكنها سرعان ما كانت تهترئ، أو تهمل إن لم يأكل الزمن عليها، وتنعدم قدرتها على لفت الانتباه تماماً، مثل قطعة حصى في طريق مرصوف بالرمل..
والأهم، بالنسبة لي، أنها لم تؤثر بي تأثير تلك الصورة في الألبوم العائلي.
وفي الأثناء أيضاً، وطوال عقود، كانت الصحف تصدر يومياً، والمطبوعات دورياً، فيما تبث المحطات التلفزيونية برامجها، التي يتصدرها في العادة سياسيون من أحجام مختلفة، ولكن أحداً منهم لم يجد له مكاناً في ألبوم العائلة، رغم أن الألبوم كان يتسع للمزيد..
والأهم، أنهم سرعان ما يغيبون دون أن يتركوا سوى ذكريات عقيمة عنهم.
وإذا ما حاولت أن أقارن تأثير تلك الصورة في الألبوم العائلي، وثباتها، واحتفاظها بسحرها على مر السنين، بشيء كان له ذلك التأثير القوي نفسه، ويتميز بذات الثبات والقدرة على الاحتفاظ بسحره، فسأختار الذكريات التي آزرت عقلي وعقول الكثيرين من زملائي في مرحلة الدراسة الأولى، التي تركها معلم لم يكن بحاجة إلى منهاج ليعلم، ولا إلى خطة تعليمية ليحسن التعليم..
ولم يكن في الواقع يدرس أو يعلم. بل كان يساعد تلاميذه بتلقائية على اكتشاف أنفسهم، واكتشاف عالمهم الذي ولدوا فيه، ويدفعهم إلى إدراك أن حدود بيئتهم الضيقة ليست حدود العالم الواقعي، وأن ما يفصلهم عن العالم ليست حدوداً فعلاً، ولكن تصورات ضيقة يمكن أن يملأ بها رؤوسهم "تعليم" و"تربية" تقليديان.
كان فناناً، ولكن أعظم من موهبته في الرسم كانت صفاته الإنسانية، التي تعطي انطباعاً يقينياً أن هنا في الحياة فعلاً أشياء معلومة البداية، غير أنه لا تعرف لها نهاية، ويطيب للإنسان أن يتواضع أمامها..
وكما تلك الصورة في الألبوم العائلي، يندر العثور على إنسان يجعلنا نشعر فعلاً، وعيانياً، أن الحياة والعقل والموهبة أوسع من حدود الواقع، وأن قيم الخير والعدل والجمال مترابطة دون سلسلة ولا قيد، وأنها أكبر وأبقى من التعاليم الضيقة، وأهم من مشاهد الواقع اليومي البليدة!
هذه بعض أفكار عزيزة ألخصها بكلمتين: عاهد حدادين. اسم استاذي.
ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.