ضحايا

ضحايا

 

ما نشهده الآن، منفجراً بعد أن كان في حالة كمون متململ، مشعلاً الحرائق في خرائطنا العربية، محطماً كثيراً من البنى القِيَميّة ومُفَسِّخاً لأنسجة مجتمعاتنا، لا بدّ وأن يحيلنا إلى مبتدأ سؤال الهُوية. نعود من جديد لنتفحصها، وكأنّ قرناً من الاجتهادات لم يكن كافياً، لنوالي توليد أخرى. لكنها، هذه المرّة، مُستَخْرَجَة من مَسْخٍ منسوخ وعلى أيدي قُطّاع طُرق من "العلماء" هُم، في جوهر جوهرهم، "فقهاء الظلام" – بحسب عنوان رواية سليم بركات! ولأنها كذلك، فإنّ من البديهي أن تكون هُوية وحش!

 

فهل نحن، بعد ما يقارب قرناً كاملاً من محاولات التمدن الصعبة (بمعنى البناء وفق مفهوم المواطنة)، مجرد وحوش تفترس بعضها بعضاً باسم الدين! وأنّ هذا الدين، لا سواه من العناصر المكوِّنة لهويتنا، هو الذي يحسم ويرسم الفرق الأكبر!

 

بمقدور الواحد مِنّا أن يتفهم الحالة التي رسمها فرانز فانون، في كتابه الأشهر "بشرة سوداء، وأقنعة بيضاء"، حيث كتب: "عندما أتحدث إلى مَن يحبونني يقولون أنهم يحبونني على الرغم من لوني. وحينما أتحدث إلى مَن يكرهوني يعتذرون بأنهم لا يكرهوني بسبب لوني. وفي كلتا الحالتين أجدني حبيس الحلقة اللعينة إيّاها".

 

بمقدورنا أن نتفهم حالة فانون ضمن تركيبة معقدة تاريخية حكمت العلاقة بين المستعمر الأبيض/ الأوروبي/ القوي/ حامل شعلة التحضُّر/ المتعلّم/ الغازي/ المثقف، إلخ من جهة، والإفريقي الأسود في بشرته الدالّة على الضعف/ التخلّف/ الجهل/ العبودية/ الارتهان للآخر، إلخ، من جهة أخرى. أيّ العلاقة المتوترة، الملتبسة في حدودها القصوى، بين عالمين اثنين، وقارتين اثنتين، وثقافتين اثنتين، ومشروعين اثنين لإنسانين يعيشان اللحظة الواحدة برؤيتين متباينتين داخل مجتمعين متفارقين تماماً.

 

هكذا كان الحال في ما يتعلق بالإنسان الإفريقي، أسود البشرة، حيال الأوروبي أبيض البشرة، وربما ما زالت شروط هذه الحال مستمرة حتى اليوم – وإنْ على نحو مخفف أو مخاتل -، وبذلك كانت الهويات تفترق وتتمايز حاملة رموزها الخاصة معها!

 

ولكن، ماذا عن حالنا نحن، وعن طبيعة العلاقة في ما بيننا؟ وهل ما زلنا على درجة من الوثوق من أننا أصحاب هوية واحدة جامعة برموز مشتركة؟ أم مجرد مجاميع بشرية بهويات خاصة، تتفق أحياناً وتتناحر غالباً، وليس عيشنا ضمن مجتمع واحد بمبررٍ كاف لنكون "نحن

 

ما يتفجَّر الآن مزلزلاً غير بَلَدٍ عربي، ومذرراً بنيانه غير المرصوص، يُغرينا لأن نعود إلى الحالة الموصوفة التي سجلها فرانز فانون، شريطة استبدال كلمة "لوني" بكلمة "ديني"!

 

إنها الحلقة اللعينة إيّاها تماماً. والجملة بكاملها لفانون مرّة أخرى.

أن يُحْبَس الواحد مِنّا بين جدران انتساب دينيّ لم يكن، في الأصل، اختياراً واعياً صادراً عن كينونة واعية؛ لأمرٌ يضاهي أكثر النِكات سماجة في تاريخ المرء. وأن تتفتت "الكتلة المجتمعية" لتستحيل إلى أفراد ضمن جماعات منعزلة، يُحاكَمون وفقاً لإرث أسلافهم المعلَّق في رِقابهم، فإما قَتْلى أو قَتَلَة؛ فإنه لواقعٌ يجاوز فانتازيا أشد العقول خَبَلاً!

 

هل ثمّة ما يبرر لنا، عند تأملنا كلّ ما سبق، التذكير بكتاب أمين معلوف "الهويات القاتلة"، حيث جعلَ من الهويات حالة ذات تركيب تتحرك عناصرها في سلم الأولويات وفقاً للّحظة في سيل تاريخ لا ينقطع؟ وأنّ مَن يمنح الثقل الحاسم لأحد العناصر غالباً ما تكون السلطات: المتربعة على عروشها، أو الطامعة في تلك العروش.

 

لكنّ سؤال "مَن نحن" ما يزال معلّقاً فوق رؤوسنا.

قَتْلَى.. أم قَتَلَة؟

كُلّنا الضحايا!

 

إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.

أضف تعليقك