صواريخ ثقافيّة
لا تقتصر فكرة الثقافة على الفنون الرفيعة، من أدب ونحت وزخرفة، فالثقافة هي المحرّك الرئيس للفرد، وللمجموعات التي قد تكون بدائيّة، مثلما قد تكون في منتهى الحضارة، إذ تشتمل فكرتها عل أعراف يُظنّ أنّها فطريّة، كطريقة شرب الماء مثلاً، مثلما تشتمل على تقاليد الكتابة الروائيّة، أو خطّة نظم القصيدة التقليديّة، التي تبدأ عربيّاً بالوقوف على الطلل.
يعمل المخطّطون السياسيّون على توظيف مفردات الثقافة للضغط العاطفيّ على الشعوب وحشدها في اتجاه ما، من مثل إعادة إحياء بعض الأغاني الشعبيّة، والرقصات، والشعارات المشتركة التي تمثّل مرجعيّات ثقافيّة للجماعة الأنثروبولوجيّة.
الروس أطلقوا على صواريخهم التقليديّة، والتي استعملوها في الحرب العالميّة الثانية اسم "كاتيوشا"، صواريخ قصيرة المدى، وتطلق من قاذفة متعدّدة الأفواه، تُركّب على ظهر شاحنة، تمطر ما قدره ثمانية وأربعين صاروخاً. لقد اختار الروس اسم "كاتيوشا" من الثقافة التقليديّة الأصيلة ، فثمّة أغنية شعبيّة ذائعة الصيت، تحمل الاسم ذاته، تحكي عن صبيّة اسمها "كاترينا"، وتصغييره "كاتيوشا"، تنتظر عودة حبيبها من الحرب منصوراً، والاسم بحدّ ذاته أحد أكثر الأسماء الأنثويّة شيوعاً في روسيا، وتقول الأغنية:
بين أزهار الخوخ والتفّاح المزهرة
راحت كاتيوشا تغنّي عن النسر الرماديّ الشامخ فوق السهول
طيري يا أغنيتها إلى الجنديّ على الحدود، وأوصلي سلامها
فكما يحرس الوطن العزيز، ستحرس كاتيوشا حبهما إلى الأبد ...
وهكذا يطلق الرجال الروس صواريخهم بدافع الحفاظ على الهويّة بمفرداتها جميعاً، تحيّة لحبيباتهم اللواتي ينتظرن عودتهم المظفّرة.
إذا ذهبنا إلى القطب الآخر أميركا، سيواجهنا الـ "توماهوك"، صاروخ جوّال بعيد المدى، يصيب الأهداف البريّة، ويتمتّع بإمكانيّة الإطلاق من السفن والغوّاصات، حجمه صغير، ويطير على علوّ منخفض بحيث يضلّل المضادّات، وقد بدأ الشغل عليه منذ عام 1971، ودخل الخدمة في البحريّة الأميركيّة عام 1983. تضرب جذور تسميته عميقاً في الثقافة الأميركيّة، لتشحذ همم المقاتلين الذين عليهم أن يشعروا بعمق الانتماء، ليكون الولاء على قدره، فـالـ "توماهوك" نوع من الفؤوس التي استخدمها الأميركيّون الأصليّون، الهنود الحمر، فأس قصير حادّ، برأس حجريّ، ثمّ حديديّ، ومقبض عموديّ خشبيّ، ويتمّ استعماله بيد واحدة.
"أوتوبيوغرافي" أو السيرة الذاتيّة، نوع من السرد الأدبيّ، يكتبه أولئك الذين غيّروا وجهاً ما من وجوه العالم، فهذا النوع من الكتابة وقفٌ على الأشخاص الاستثنائيّين! لكنّ شركة رينج روفر البريطانيّة جعلته امتيازاً لا علاقة له بالمنجز التاريخيّ للأفراد، بل لمن يختار أن يركب السيّارة التي أطلقتها عام 1993 وسمّتها: "أوتوبيوغرافي" أي سيرة ذاتيّة، لتكسر احتكار الثقافة لأصحاب المنجز، فتنقلها لأصحاب المال. بتلك المرجعيّات الثقافيّة الأيقونيّة، يتمّ سدّ الفجوات الثقافيّة التي يتوق إليها أهل السياسة والمال والعسكر، وما على المتحكّمين بميزان القوى العالميّ سوى أن يعرفوا موقع الجذور وامتداداتها، ليطلقوا صواريخهم، ويرسموا خرائط للطرق التي ستقطعها سيّاراتهم.
- د. شهلا العجيلي: كاتبة، وروائيّة، وأستاذة الأدب العربيّ الحديث في الجامعة الأميركيّة في مادبا. لها في الرواية "عين الهرّ" الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية 2009، و"سجّاد عجميّ".