لم تكن صحافة ولا حتى ليوم واحد بعد وفاة جيل المؤسسين، أو خروج آخر تلاميذهم وأتباعهم، والمهنيين المحترفين، وتولى بعض الصحافيين من الصف الثالث، أو من المقعد الأخير في الصف الدراسي لمهنة الصحافة، قيادة العمل الصحافي.
ليس كل ورقة مطبوعة مع شعار واسم تجاري ومانشيت وعناوين فاقعة وكتاب يطلق عليها صحيفة، فبعض الصحافيين والكتاب حين تقرأ لهم يجعلك تشعر "كالذي يتخبطه الشيطان من المس" ، أو كأنك أمام نسخة محلية مستنسخة دون إتقان من توفيق عكاشة وأحمد موسى.
نحن نعيش حاليا فترة "الصحافة العميقة"، أو صحافة تختبئ في داخل الصحافة، أو دولة تختبئ خلف الصفحة الأولى وبين الأعمدة، صحافة تلتقي وتتماهى تماما مع السلطة التنفيذية ومع طبقة رجال الأعمال والمقاولين ولوبي النواب، صحافة تمارس التأييد المطلق للسياسات الرسمية، والركض واللهاث خلف الدعوات الرسمية لحضور اللقاءات الصحافية المغلقة التي تقتصر على قلة "منتقاة" من الصحافيين والكتاب.
صحافة، إلا قليلا من المبدعين الجالسين على جمر المهنة الملتهب، تقوم على البيانات وانتظار خبر وكالة الأنباء الرسمية "بترا" لنسخه وإعادة كتابة الفقرة الأولى وترتيب باقي الفقرات ليصبح قابلا للنشر في الصحيفة "العميقة" بوصفه من إنتاج صحفييها.
ولتوضيح مصطلح "الصحافة العميقة"، فهو مستمد من المصطلح السياسي "الدولة العميقة" ويعني الدولة الموازية، أو دولة داخل الدولة، أو دولة الظل التي تحكم رئيس الحكومة ومجلس الوزراء من وراء حجاب أو ستار.
الصحافة المستقلة الموءُودة كانت يعين معظم صحفييها وإدارييها من قبل رئيس التحرير ومجلس التحرير ومجالس الإدارات، أصبحوا يعينون الآن من قبل الدولة نفسها.
هل نحن حقا طسلطة رابعة"؟ هل ينطبق علينا إطلاق المؤرخ الاسكتلندي توماس مصطلح "السلطة الرابعة" انطلاقا من عبارة أوردها المفكر الأيرلندي إدموند بيرك أشار فيها إلى الطبقات الثلاث التي كانت تحكم البلاد في ذلك الوقت، وهي "رجال الدين" و"النبلاء" و"العوام"، مشيرا إلى أن المراسلين الصحافيين هم "الحزب الرابع" الأكثر تأثيرا من كافة الأحزاب الأخرى؟
البعض يستخدم مفهوم "السلطة الرابعة" لمقارنة الصحافة بالفروع الثلاث التي تحدث عنها مونتيسيكيو وهي: التشريعية والتنفيذية والقضائية. وقد قال إدموند بروك بهذا الصدد: "ثلاث سلطات تجتمع هنا تحت سقف في البرلمان، ولكن هناك في قاعة المراسلين تجلس السلطة الرابعة وهي أهم منكم جميعا".
لم تكن حرية التعبير والصحافة حقا تمنحه الدولة بل حقا يتمتع به الفرد وفق القانون الطبيعي. لذا كانت حرية الصحافة جزءا لا يتجزأ من الحقوق الفردية للإنسان لأنها مهنة تقوم على جمع وتحليل الأخبار والتحقق من مصداقيتها وتقديمها للجمهور، وليس ترديد مقولات وأكاذيب الحكومة والانسياق خلفها كمن يمشي في نومه لا يعي ما حوله، أو مثل من يمشى مكبا على وجهه.
بعض الصحف لا تصلح حتى للقراءة من كثرة الضعف المهني والانحياز الذي يجعلنا نطأطئ خجلا، لأنها أمام مصالحها مستعدة ان تدوس على جميع القيم.