أضاءت الشابة السودانية آلاء صلاح، أو "محبوبتي كنداكة"، شعلة الأمل بالحرية مجدّدا بين الشعوب العربية، ليس فقط في صورتها الأيقونية التي تعيد إحياء صور مقاتلاتٍ عبر التاريخ، من كل الأجناس والأديان والأعراق، بل في رمزية وقفة الشموخ والعفوية من دون اعتبار لقيود أو محاذير.
الضوء الذي أنارته آلاء ملهماً للشعوب ومخيفاً للحكام ليس من الصبية الجميلة في روحها وشكلها، بل في صرختها الدافئة في نعومتها، والشرسة في مضمونها. لا أتحدث عن آلاء شخصا، ولها كل التحية والمحبة والاحترام، إذ إنها أضحت، بكاريزميّتها وشجاعتها، صوتنا بوجه الظلم والأنظمة التي استكانت لحالة الإحباط التي سيطرت على الشعوب العربية، وكل مواطن أو محروم من حق الجنسية أو المواطنة، عربيا كان أو لم يكن، بعد انتصار الثورات المضادة وإحكام الأنظمة على مفاصل السلطة من خلال قمع دموي، وإعادة تدوير الوجوه بأدوات جديدة وقديمة.
جمال وجه آلاء هو توأم روح المواطن الغاضب والمقهور والمسحوق تحت ثقل القمع والإفقار الاقتصادي والمعيشي، وجه لا يبدو مخيفا في تقاطيعه وصوته، وجه الانتفاضة ضد الظلم، وعلى كل الأنظمة الخوف، لأن الانتفاضتين، الجزائرية والسودانية أعادتا الأمل، والأمل هو بداية استعادة الشعوب ثقتها بنفسها.
مع أهمية إسقاط الرئيسين، عبدالعزيز بوتفليقة وعمر البشير، مع الفرق في تاريخيهما، فهذا وحده ليس كافياً بعودة الثقة للشعوب العربية بنفسها، بل هو إصرار المحتجين الجزائريين .
والسودانيين على رفضهم الوقوع في فخ استبدال الأسماء من دون تغيير جذري لبدء مرحلة جديدة أساسها مشاركة الشعب وإنهاء احتكار السلطة، وهدر الموارد الاقتصادية الذي بعث الأمل، فالمطالب الرئيسة منذ انطلاق ثورة الياسمين في تونس، و25 يناير المصرية، لم تتغير، وتتلخص في شعار "عيش، حرية، عدالة اجتماعية"، بغض النظر عن اختلاف اللهجات المحكية.
أداء المحتجين في الجزائر والسودان، وما رافقه من ظهور خطاب سياسي بدأ يتبلور في إطار تقدمي، من دون خداع للنفس، لقي صدىً بين مثقفين وناشطين عرب، ففي الأردن التقط الحراكيون، ونشطاء الوسائل التواصل الاجتماعي، رمزية الأحداث، لبعث رسائل إلى القصر والملك، بأن انتفاضات الجزائر والسودان رسائل تحذيرية لا لبس فيها.
وضع كثيرون صورة آلاء، الأصلية أو المرسومة، بكل ما يحيط بها من إشعاع، إرادة الشعوب بوصفها رسالة تعبئة وإنذار. لا يعني ذلك تبنّي الأردنيين شعار "اسقط وبس" الذي رفعه المنتفضون السودانيون، لكنه رسالة مغزاها أن التسويف والمماطلة واللجوء إلى أي حلول أمنية تشعل فتيل انفجارٍ قد لا يمكن التحكم به.
أما في مصر فدبت روح ثورة يناير في النفوس، قد لا تترجم بأفعالٍ في المستقبل القريب، لكن الشعلة، كما اكتشف كثيرون، لم تخب، فالموجة الجديدة من الانتفاضات تعني استمرارية احتقان غضب الشعوب في مقابل استمرارية الاستبداد. وقد كانت التجربة المصرية حاضرة في السودان، إن كان من حيث الإلهام أو دروس انقلاب الجيش، فلا ثقة بحكم عسكر، بحجة انتصاره للشعب، ورعايته مرحلة انتقالية. ما نراه في البلدين رسائل مباشرة إلى الحكام العرب، مفادها بأن عصر الانتفاضات لم ينته بعد، فجذور الظلم باقية وممتدة، وأن القبضة الأمنية لا تنجح بكل بطشها، إلا إلى حين، فلم تتغير الأسباب التي فجرت موجة الهبات الشعبية الأولى، بل ترسخ الاستبداد، وتعمقت الأزمات الاجتماعية الاقتصادية.
قد يكون الدرس الأهم الذي لم يتعلمه أي من الأنظمة، بل تمسكت به أكثر من قبل، هو الاعتماد على التحالفات الخارجية، بغض النظر عن صدقها أو أهميتها، وعلى التبعية لقوى إقليمية ودولية، من أجل تثبيت بقاء الحكام أو على الأقل بقاء الأنظمة من دون تغييرات جذرية. والرئيس عمر البشير نموذج ممن اعتقدوا بأن إيجاد دور وظيفي، وإن كان متغيراً وفقاً للظروف، هو ضمان البقاء والاستمرارية، ففي الآونة الأخيرة، بدأت محاولاته تؤتي ثمارها، أو هكذا بدا له وللمراقبين، فوصوله إلى دمشق، أول رئيس عربي "يكسر الحصار" على متن طائرة روسية، في رحلة كانت بالون تجربة للأنظمة العربية الأخرى، وضعه مؤقتاً في صورة المتحدّي لأميركا، وإنْ يصعب تخيل عدم وجود ضوء أخضر أميركي للزيارة، لكنه لاعب إقليمي، أو هذا ما اعتقده.
وقد استفاد من النزاع الخليجي، فرفض عرضاً مالياً سخياً من دول الحصار، وأولاها السعودية، متجها إلى قطر وتركيا، ما وفر له دعماً سياسياً، وإن كان لعدم اختياره السعودية علاقة أيضا بانقلاب السعودية على دعمها التاريخي "الإخوان المسلمين"، ما جعل في التوجه إلى الإمارات والسعودية بالغ الثمن، لما يتطلبه ذلك من معاداةٍ لجماعة الإخوان المسلمين، لما لهؤلاء من دور تاريخي ومستمر في دعم النظام السوداني، إضافة إلى حضور مهم في السودان. ولعبة البشير ليست جديدة، إذ يتحمل المسؤولية الأكبر في تقسيم السودان، فقمع الجيش وغياب حقوق المواطنة دفعا الجنوب إلى أحضان أميركا وإسرائيل، لكنها أيضاً لعبة جميع الحكام التي لا تتوقف عند التحالفات، بل تدخل في نطاق تبعية خطيرة، وكلنا يذكر فضيحة تسليم المناضل الأممي، كارلوس، الذي عمل مع المقاومة الفلسطينية، بعد تخديره، إلى المخابرات الفرنسية. لكن الحاكم، ولن أقول العربي خصوصا، يبالغ في ربط نفسه وظيفياً، وإخضاع دولته لأدوار وظيفية، في خدمة مصالح إقليمية عادة، وليس حصراً الأميركية، وكأن هذه التحالفات التي تصل إلى حد الخنوع تمثل فعليا مصدر الشرعية لنظامه، ناسياً أن هذه القوى نفسها إما تتخلى عنه، وتدعم انقلابا من داخل النظام على الانتفاضات والمطالب الشعبية من داخل النظام، أو تتدخل من أجل أن يبقى على ركامٍ من حطام بلاده، ويفقد بالتالي كل السلطات، باستثناء سلطات قمع الشعب واستغلاله.
الدور الوظيفي قد يفيد، ولكن ليس حين تستفحل الأزمة الاقتصادية الاجتماعية، وتفقد الدولة قدرتها على تقديم الحد الأدنى من ظروف حياة مريحة للأغلبية، خصوصا إذا استفحلت مظاهر الفساد، فأميركا تستبدل حليفا قديما بحليف جديد من بين أوساط النظام نفسه، ففي الأردن مثالا استمرار الملك عبدالله في رفض الإجراءات الإسرائيلية المدعومة أميركياً في إطار صفقة القرن تجعل كل السيناريوهات محتملة، وهذه فرص يستغلها الانتهازيون، وليس أصحاب المطالب المحقة.
قد يتم استبدال البشير بوجه آخر، لكن وعي الخطاب الشعبي السوداني، وعدم استباقه وعود العسكر الذكية التي تحاول النأي بنفسها عن نموذج حكم العسكر في مصر ضمانة لنا جميعا، وهي رسالةٌ يجب أن تخيف الحكام العرب، ولكنها أيضاً رسالةٌ مطمئنةٌ إلى أي حاكم يجد الشجاعة للاتجاه إلى الداخل، بدلا من الاعتماد على الدعم الخارجي في مواجهة إرادة من يصرخ من أجل العدالة.
أمعنوا بصورة آلاء صلاح، هي تغني وتتحرك بحرية، واستمعوا جيدا إلى الكلمات، قوة هذه الصورة في أنها تذكير بليغ بأن دافع الثورة هو حب الحياة، وهو حب جميل، ولكنه أخطر أسلحة الثورة ضد الظلم.
العربي الجديد