راديكالية الأردنيين
نشرت "بي بي سي" في الحادي والعشرين من الشهر الحالي تقريرا عن الظروف المعيشية والسياسية في الأردن قالت فيه إن "الأوضاع الاقتصادية المتراجعة في الأردن والسياسية الجامدة والاجتماعية المتململة تفتح الباب أمام عِلل مزمنة لا تظهر إلا في أوقات التراجع، وكل هذه الأوضاع الحالية تدفع أيضا باتجاه شكل من أشكال الراديكالية".
وتوجه المزاج الأردني إلى الراديكالية في نظرته إلى السياسات الحكومية، إنما مرده إلى أنّ الحكومة لا تُصغي باهتمام وعمق إلى هواجس الناس ومخاوفهم وانتقاداتهم ومواطن قلقهم. ولطالما عُرِف الأردنيون تاريخيا باعتدالهم وعقلانيتهم ووسطيتهم وبالارتفاع الكبير في نسب التعليم بين صفوفهم، وهذه، إلى جانب ما يتحلون به من شهامة وكرم، تشكّل عصَب هويتهم. لكن من يُصغي الآن إلى كلامهم وتعليقاتهم في الصحف والمواقع والمجالس، يلمح بوضوح نبرة متصاعدة من التشدد والإحباط تصل في أعلى مستوياتها إلى "شيطنة" الحكومة. وهي فكرة ليست في صالح أحد.
ومَثَلُ حكوماتنا في تعاملها مع النقد كحدثٍ خطيرٍ يطال هيبتها ويقدح في مكانتها وصدقيتها كمَثَلِ ذاك المسؤول الذي ترافق "الكَشرة" محياه في تعامله مع موظفيه؛ ظناً منه أن تلك "الكَشرة" هي من تصنع الهيبة!
عدم الاستماع للناس يزيد من منسوب الكبت لديهم، ولا ينفّس احتقاناتهم، ومع تراجع الإصلاح السياسي (كمدخل أساسي لتفكيك الاحتقانات وتبديدها، والإبقاء على باب التفاؤل والاعتدال مفتوحاً) فإن ما هو كامن، برأي "بي بي سي"، سوف يزحف على السطح، تغذيه الأوضاع غير المشجعة اقتصاديا وسياسيا.
في الأردن، لم نشتغل بما يكفي (تحت وطأة عُقدة "الهيبة") على فكرة أن الحكومات جزء من الشعب، وأنها خاضعة للمساءلة والمحاسبة والنقد، وأنها ليستْ فوق القانون، أو فوق النقد. والحكومات تجيء وتذهب، لكنّ الأسس والمؤسسات التي يقوم عليها البلد باقية وراسخة، والقيم الوطنية والثقافة التي تميّز الأردنيين كشعب والأردن كبلد لا تُغيّرها أو تخلقها حكومة من الحكومات. وضعف "مأسسة" هذا المعنى، إلى جانب ضعف تقاليد الحياة العامة والمشاركة الواسعة في العمل العام، هو ما يجعل الحكومة لدينا تبدو وكأنها ليس مجرد سلطة تنفيذية بل أوسع من ذلك بكثير. وأزعم أنّ من شأن الاشتغال على هذه المعاني وترسيخها أنْ يعيد ترتيب المشهد بشكل أكثر عدلا وإنصافا، ومن غير ذلك ستبقى السلطة التنفيذية هي الأكثر نفوذا، والأعلى صوتا، والأشد تأثيرا، والأقوى حضورا في حياة الأردنيين، وهذا ما يجعلها السلطة وهي في الحقيقة جزء منها وجزء من صناعة القرار.
عدم قيام إصلاحات سياسية ناضجة، وضعف الحياة العامة، على خلفية تراجع الثقة في المؤسسة البرلمانية، جعل حجة من ينتقد لاموضوعية التورط في "شيطنة" الحكومة أو تحميلها وزر أخطائنا جميعها... حجة ضعيفة، لا تلقى القبول من كثير من الناس، وهذا مؤشر عميق على اتجاه نحو الراديكالية، يستحق التوقف، ونافذة معالجته تبدأ بأن "توسّع" الحكومة صدرها، وتدرك أنّ من ينتقدونها هم أيضا وطنيون يحبون بلدهم، ويرون أن "الهيبة" الحكومية تتحصّل عبر تطبيق القانون والالتزام به، واجتراح سياسات حكومية ترفع منسوب الثقة بين المواطن والحكومة، بدلا من تنمية الكبت والعِلل والإحباط وهي موارد الراديكالية ومنابعها.