راجعون
مثل الزاحف على الشوك، أكتب موزعاً بين الانسحاب من مواجهة الذكرى، وبين الرغبة في قول شيء عن شيء لا يمكن أن يوصف بالذكرى. فبعد كل شيء، لم يكن أي شيء كتبناه ونكتبه، تحت أي عنوان، وفي أي مكان من المحيط إلى الخليج، منفصلاً عن النكبة. وكل هذه الأزمات، وهذا الاشتباك المضني مع تعب غريب لا يشبه ما اعتاده الآخرون، وشكوانا جميعاً مما لا يشكو منه الآخرون، بدأت كلها في ذلك اليوم قبل اثنين وستين عاما، حين انسدت زرقة الأفق بسرب من الغربان الذي سدّ عين الشمس وحجب الضوء، وفرش ظلاً حالكا لا يني يتمطط، مثل كائن بشع يشيخ ولا يريد أن يموت. أما أن تكون "النكبة" هي العنوان، فإن ذلك يعجزني كما لم يفعل بي أي عنوان. وأكتب وأشطب، محاولاً أن أقف بين يدي اليوم بشيء يليق، فلا أجد كلاما يمكن أن يليق. ولا أستطيع أكثر من مناجاة قلب لقلب، وشدّ يد بأيدي القابضين على جمر الحزن، والمحتجزين على حاجز الانتظار.
ولا أستطيع سوى أن أكون عاطفيا هذا الصباح، وعاجزاً عن اجتراح شيء عاقل يمكن أن يغير وجهة الراكبين على أكتافنا، والذاهبين بنا بعناد إلى مزيد من النكبة. وأحاول أن أحتال على السخط بالأغنيات، فلا يجيء غير الشجن. وتسيل الفيروزيات بالذات، مثل أمهات عجائز حال لون الحرير المطرز على أثوابهن، وتغضنت ملامحهن وهن موقوفات على جسر الأحزان الذي لم يصبح "جسر العودة". وأعاتب عندليب المنحنى: لماذا قلت "سنرجع"، ولم نرجع يا عندليب؟! ولماذا تركتنا معلقين على صليب الانتظار؟! وأريد أن أعتذر لأبي: لا أستطيع يا أبت أن أعود برفاتك إلى "هناك"، كما يفعل الأبناء الصالحون بأي أب يموت وروحه معلقة بالتراب الأليف. فقد تآمروا على يتمي يا أبي: زوج أمي، وابن عمي والغريب، وصادروا من دفتري مفردة "العودة" وعرضوها في المزاد. وربما يعوضوني بما يكفي لأرفع جدران قبرك، ولو أنه سيظل أضيق كثيرا من كرم التين والبيادر هناك. وربما يمنحوني أيضاً بضعة أمتارغير ملائمة على منحدر شديد الوعورة في المنفى، لتنطبق عليك وعليّ حلقات النكبة!
وثمة شيء يتكشف أمام البصيرة على الرغم من كل شيء. وتتفتّح الصورة الأعلى والأوسع، وتومض تحت الشعاعات القليلة التي تفلت من ثقوب الظل الذي بدأ ينحلّ وتملؤه الثقوب. بعد اثنين وستين عاما، لم يزل هناك فلسطينيون، والكثير جداً من الفلسطينيين الذين ينبتون كل يوم من الجذور، وسيظلون يكثرون. ولم يستطع اليتم، ولا النوم في غرفة مهملة خلف منازل الآخرين، ولا كل هذا القبض المتكرر على الفلسطيني كلما قفز من فوق الحاجز، لم تستطع كلها أن تجعله غير موجود. وتحت الوسائد، وفي الزوايا، وفي الجيوب، وفي القلوب والرؤوس، تحتفظ الملايين بملايين النسخ الحقيقية مما أخذوه من الدفتر. وفي كل بيت ينحدر قاطنوه من صلب النكبة، تجد تمائم "الحق" و"العودة"، في المفاتيح المعلقة على الجدران، والتذكارات في الصناديق، أو تتجول طليقة في المكان ومليئة بالحياة!
ونحن ما نزال نحكي. ولن تنتهي فصول الحكاية ما دام هناك من يحكي.ونحن امتداد آبائنا في الأرض، ولنا امتداد. وشعبي "عود الندّ" الذي يظل يفيض ويتدفق أبعد من بقعة الظل الأسود، لتكون أطرافه تحت الشمس. وأعرف أن الزمن يضيق على أبناء جيلي ممن يعرفون وجهة الأرض التي لم يروها ببوصلة القلب. وربما لن يجعلونا نعود. وقد لا تحملنا الأقدام طويلاً لنزاحم الزاحفين إلى الأطراف المشمسة في الأمام. وربما وهن الصوت منا لكثرة ما نهرَنا الأوصياء وأمرونا بخفض الصوت أو السكوت. لكننا نثق بما هتفت به حناجر الداخلين "في الغياب مرتين" بعد الفصل الثاني من النكبة: "راجعون"، مثلما نثق بعودة الشمس ودوران الفصول. ولا أعرف الآن كيف أردد هتاف "راجعون" الواثق الذي لم يغب أبداً بصوت مخنوق. لكنني أستطيع أن أهمس بكل ما تركوا لنا من صوت، وبرجاء المصلوب على شباك الانتظار: "بلادي.. أعدني إليها، ولو زهرة، يا ربيع"!