ديمقراطية الوفاق ؟

ديمقراطية الوفاق ؟

ما يحدث في العديد من الدول العربية الآن حالة تثير تساؤلات كثيرة، من أهمها سؤال حول ملاءمة الديمقراطية لحالنا. هل الديمقراطية الغربية تلائمنا فعلاّ؟ هل يلائمنا نمطٌ منها يُكيَّف لينسجم مع سمات مجتمعنا؟ أم هل يلائمنا شيء آخر تماماً؟ هذه أسئلة بحاجة إلى بحث معمق.

المشكلة الآن، كما تتجسد في الحالة المصرية التي هي مثال حيّ لما يجري في دول عربية أخرى بدرجات متفاوتة ومنها سورية، هي مشكلة عدم "توافق". والكلمة الأخيرة أخذت تتردد بكثرة مؤخراً في العديد من الدول العربية. هنالك حالة عناد وتَشبّث بالمواقف وتَمترس وخندقة من قبل العديد من الفئات المسيّسة المُحزّبة (التي لا تمثل بالضرورة الإرادة الشعبية) من ناحية والحكومات من ناحية أخرى، يزيد من تفاقمها أطماع وتدخلات خارجية.

من المسلّم به أن الديمقراطية مفهوماً وممارسة تقوم على الاختلاف الجوهري في الآراء والتباين الصارخ في المواقف والتشبّث بالمعتقدات والتحزّب وحتى التعصّب. كلّ تجمع أو حزب يحاول فرض رأيه أو أيديولوجيته على الآخرين. هذه هي لعبة الديمقراطية. فالديمقراطية تفترض الاختلاف والخلاف لا الاتفاق أو التوافق. ويُحسم الأمر فقط عن طريق صناديق الاقتراع التي يكون فيها غالبٌ مسرورٌ بحكمِ كثرة الأصوات (وليس بحكم أفضلية الرأي) ومغلوبٌ مقهور. ويَقبل الأخيرُ قدَرَه بناء على قواعد الديمقراطية التي لا تختلف عن مبدأ القرعة أو "الفنّة". يحكم الحزب الفائزُ وينتظر الحزبُ المهزومُ إلى الانتخابات المقبلة لمحاولة قلب الطاولة. هذه هي القاعدة الأساسية في الدول الديمقراطية التي يحتل الساحة فيها حزبان كبيران، كما هي الحال في أمريكا وبريطانيا على سبيل المثال.

أما في الدول الديمقراطية التي يكون فيها عدة أحزاب فتدخل الأحزاب في تحالفات آنية إما قبل الانتخابات كي يكون لها حضور في صناديق الاقتراع أو بعد الانتخابات كي يكون لها نصيب في الحكم. ونقول إن هذه التحالفات آنية لأنها قد تنفكّ عن بعضها في أية لحظة حسب ما تُمليه عليها مصالحها.

الإشكال الحاصل في الدول العربية التي بدأت بتطبيق الديمقراطية يأخذ شكلين من أشكال عدة يخالفان ما هو متعارف عليه في الحالات الديمقراطية المذكورة للتو. الأول ويتمثّل في مقاطعة الانتخابات والثاني بالاستفراد بالسلطة.

في الدول الديمقراطية لا تقاطع الأحزاب الانتخابات، إذ إن المقاطعة تُعمّق الاختلاف وتُفاقم المشكلة وقد تؤدي إلى حدوث الاضطرابات والصدامات والفوضى بين الفرقاء، كما حصل ويحصل في العديد من الدول العربية. إذا كان الفيصل في الدول الديمقراطية هو صندوق الاقتراع، فكيف يُحل الإشكال إذا لم يحتكم الناس للصندوق؟ هذا دليل على أن العديد من الدول العربية التي تبنّت الديمقراطية لم تقبل بعد بجوهر الديمقراطية، الذي هو صندوق الاقتراع، أو أنها غير مستعدة له بعد. وهنا إشكال كبير.

ثم في الدول الديمقراطية المبنية على التعددية الحزبية (وليس على مبدأ حزبين كبيرين) لا ينفرد الحزب الفائز بالسلطة. المشكلة في العديد من الدول العربية، ومثال عليها مصر مرة أخرى، هنالك العديد من الأحزاب الصغيرة وهذه الأحزاب لم تتقن بعد لعبة الائتلافات، فالائتلافات تعني تنازلات كبيرة وتفاهمات تُمكن عدة أحزاب من التجمع في ائتلاف كبير يقوم على مبدأ تقاسم السلطة والمشاركة في الحكم بهدف المسك بزمام الأمور إلى أن تأتي الانتخابات المقبلة فيكون لكل حادث حديث. وهنا أيضاً إشكال كبير.

أين التوافق من كل هذا، الذي ينادي به كثيرون في الدول العربية؟

في تقديري التوافق بمفهومنا وفي سياقنا العربي يختلف اختلافاً جوهريا عن مفهوم الائتلاف في الديمقراطيات الغربية. يقصد بالتوافق غالباً consensus وهو قريب من مفهوم الإجماع أو التزكية أو حتى المبايعة. فهو أكبر وأشمل من موضوع صندوق الاقتراع أو موضوع من يفوز.

السياق الثقافي والاجتماعي مهم جداً. ماذا يحدث عندما يختلف الناس في مجتمعنا، على مستوى العائلة أو العشيرة أو الحي؟ يتدخل العقلاء وينهون الأمر على فنجان قهوة أو بـ"بوسة لحية" أو مصافحة، على مبدأ أن يُقدّر الطرفُ الطرفَ الآخر أو يُسامحه أو يتنازل له وفي بعض الحالات يتنازل الطرفان أو أحدهما إكراما لجاهة ما أو لرمز اجتماعي أو لقيمة ثقافية أو دينية.

في الديمقراطيات يجتمع الفرقاء أنفسهم بأنفسهم للتوصل إلى تفاهمات، من دون وساطة أو "جاهة" أو وجاهة أحد ومن دون الحديث عن إكرام لفلان أو علان.

كلما تمعّن المرء في الأمر وجد صعوبة في إمكانية تطبيق الديمقراطية على علاّتها في مجتمعنا. أولاً الديمقراطية أتتنا من سياق اجتماعي وثقافي وتاريخي مختلف اختلافاً كليا عن سياقنا. وهنالك دوما خطورة في تبنّي شيء من سياق مختلف من دون تكييفه ليلائم السياق الجديد. وثانيا، وفي الظروف الراهنة بالذات، يبدو أن الديمقراطية أتتنا محمولة على أجندات استعمارية، ولا يُسرّ المرء عندما يرى أمريكا ودول أوروبا التي استعمرتنا قبل مدة ليست ببعيدة التي لها أطماع في منطقتنا واضحة وضوح الشمس تلعب دور العراب والمحرك الرئيس في كل ما يحدث.

لهذين السببين وغيرهما نخشى أن الديمقراطية في العالم العربي ستفرّق أكثر مما تجمع وتؤزّم أكثر مما تفرّج وتقطّع أكثر مما توصّل. انظر، إضافة إلى وضع مصر وسورية، إلى تونس وليبيا واليمن ثم إلى فتح وحماس.

وكل ذلك بدأ منذ مدة ليست ببعيدة بالإعلام السيئ الدخيل المشبوه الذي اخترق مجتمعنا فجأة ومن دون سابق إنذار وأخذ يروّج للرأي والرأي الآخر، للاتجاه والاتجاه المعاكس والمناظرات الهزلية المُخجلة التي هي أشبه ما تكون بالمصارعة الأمريكية، مغذّياً بذلك التنافر بدل التوافق والاختلاف بدل الائتلاف والتناحر بدل التصالح، كلّه باسم الديمقراطية و"حرية" التعبير "والجرأة" في الطرح، كأن الديمقراطية و"حرية" التعبير و"الجرأة" غاية لا وسيلة!!

قد يكون الحل، ما دمنا ننشد الديمقراطية ويُهرول نحوها مَنْ مِنَ المفترض أن يكونوا أكثرنا محافظة وكرها للغرب وتمسّكاً بالتراث، في المواءمة بينها وبين آليات الوفاق والتوافق المنسجمة مع وضعنا، فنخرج بديمقراطية مهجّنة مكيّفة بعض الشي، ديمقراطية الوفاق – إن جاز التعبير.

لكن هل نقدر حتى على ذلك؟

العرب اليوم

أضف تعليقك