درس أتاتورك

درس أتاتورك
الرابط المختصر

دعيت وزوجتي الأربعاء الماضي لحضور الاحتفال الرسمي بالعيد الوطني الـ91 لتأسيس جمهورية تركيا الحديثة، في فندق غراند حياة، في عمّان، بمشاركة مئات المواطنين الأتراك المقيمين في الأردن، وسفراء دول وأصدقاء الجمهورية التركية، الذين استمتعوا بالمأكولات التركية الشهية واحتساء البيرة والنبيذ الأحمر والأبيض وغيرها من المشروبات غير الروحية.

صورة تختلف عن الفكرة النمطية التي تروج بين النشطاء السياسيين، وما يسمى بـ"الخبراء"، بأن تركيا هي النموذح الناجح للإسلام السياسي المعتدل.

تركيا الحديثة التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك هي دولة علمانية مبنية على أساس فصل الدين عن الدولة، علماً بأن 99% من سكان الجمهورية من المسلمين. ورغم بعض التصريحات المؤيدة للحركات الإسلامية، في فلسطين ومصر، مؤخراً، لرئيس وزراء تركيا السابق والرئيس الحالي طيب أردوغان إلا أن الوضع الدستوري والقانوني والحياتي لتركيا بعيدٌ عن كون الجمهورية التركية دولة تتبنى الإسلام في إدارة شؤون الحكْم.

مبادئ أتاتورك لا تزال أساس الجمهورية التركية (كما هو مدوّن على موقع رسمي لمؤسس تركيا) وهي: الديمقراطية, والعلمانية, ومساواة المرأة مع الرجل, وحرية الدين, وتعليم مجاني ومختلط (بين الجنسين)، والسلم الأهلي، والسلام العالمي، وعدم التوسع الجغرافي.

ترجمت هذه المبادئ من خلال دستور حديث لا يشمل أي ذكر لدين الدولة، حيث تنص المادة الأولى على أن نظام تركيا جمهوري، وتنص المادة الثانية على أن "جمهورية تركيا هي دولة ديمقراطية وعلمانية واجتماعية تحكمها سيادة القانون؛ وتضع في اعتبارها مفاهيم السلم الأهلي، والتضامن الوطني والعدالة؛ واحترام حقوق الإنسان؛ والولاء للقومية التركية، وقد أنشئت على أساس المبادئ الأساسية المنصوص عليها في الديباجة".

وخوفاً من تغيير تلك الفقرة، جاء في المادة الرابعة من الدستور أنه "لا يجوز إلغاء أو تعديل الحكم الوارد في المادة 1 من الدستور الذي يصف شكل الدولة بوصفها جمهورية، وكذلك الحكم الوارد في المادة 2 عن خصائص الجمهورية".

لا شك أن هناك مشاكل جمة في كيفية إدارة الجمهورية التركية الحديثة، ومن أهمها تحديات حرية التعبير والإعلام وما يواجهه الإعلاميون والناشرون من محاولات السيطرة والاحتواء. يقول المسؤولون الأتراك إنه لا يوجد اعتقال لصحفيين، مفندين تصريحات مؤسسات دولية بأن سجون تركيا مليئة بالصحفيين، حيث يصر الناطقون باسم الحكومة بأن هؤلاء "إرهابيون أكراد" يستغلون الصحافة لأهدافهم لا صحفيين مهنيين، أما الاحتواء الناعم (أو الخشن) للإعلام التركي وخاصة كبار الناشرين والمحطات التلفزيونية فلا يوجد جواب مقنع حوله.

الدرس التركي الذي يمكن الاستفادة منه يتركز في أهمية فصل الدين عن الدولة تمشياً مع المقولة الشعبية: "الدين لله والوطن للجميع".

الدين- أي دين- هو مؤسسة تؤمن بالحق المطلق غير قابل للنقاش باعتباره كلام الله في حين أن السياسة بمعناها التطبيقي هي فن الممكن، وأي محاولة لاستخدام الدين في السياسة محكوم عليها بالفشل؛ فحين تساوم على "كلام الله" (لا سمح الله) ستفقد القدرة على تطبيق مبدأ فن الممكن، ويصبح كل سياسي عبارة عن أداة (روبوت) يصوّت حسب رغبة القائد الديني المخول الوحيد في إبلاغ باقي البشر عن مشيئة الله في حياتنا اليومية، وكيفية التعامل مع التحديات اليومية التي يواجهها الإنسان في عصرنا الحالي.

لقد تعلمت أوروبا ذلك الدرس من خلال الحركات الإصلاحية والتنويرية قبل قرون، واستفاد كمال أتاتورك من تلك التجارب رغم معاداته للعديد من الدول الأوروبية في فترة الحرب العالمية الأولى.

مرت 91 سنةً، ولا تزال إسطنبول تواجه أزمات وتحديات في فهمها وتطبيقها لمعنى العلمانية ودور الدين في الحياة العامة، غير أن الطبيعة العلمانية المبنية على فصل الدين عن الدولة هي أساس الجمهورية التركية الحديثة، ومصدر نجاحها وتفوقها وليس أي أمر آخر.

·        داود كتّاب: مدير عام شبكة الإعلام المجتمعي. أسس العديد من المحطات التلفزيونية والإذاعية في فلسطين والأردن والعالم العربي.

 

أضف تعليقك