يناقش تراثنا الخلاف بين الفرق الإسلامية حول مواصفات الفرقة، التي تسير على المنهج الصحيح الذي رسمه الإسلام من دون تضليل أو تحريف، ومن المفترض أن تكون هذه الفرقة الوحيدة هي الناجية من العذاب يوم القيامة، مقابل انحراف الفرق الأخرى عن جادة الصواب، ومن ثم تكفيرها في الدنيا، والحكْم عليها بدخول النار.
يُتوارث الخلاف من خلال توجيه حديث يروى عن النبي محمد، ويخبر فيه أن أمته سوف تفترق إلى فرق كثيرة مختلفة، وسيكون من بينها فرقة واحدة ناجية، ومصيرها في الجنة، فيما يكون مصير الفرق الأخرى إلى النار، ومن منطلق البحث عن الصفات المتخيلة للنجاة من النار فإن الفرق والطوائف والأحزاب تسعى لإثبات صفاتها التي تجعلها جديرة بتلك النجاة.
لكي نستطيع البحث في حقيقة الفرقة الناجية علينا أولاً أن نبحث في صحة الحديث المروي فيها، لأننا عندما نراجع الحديث المتعلق بتلك المسألة يهولنا حجم الروايات واختلاف ألفاظها، مما يدل على حجم التحريف الذي لقيه هذا الحديث-إن كان موجوداً أصلاً- لتنطبق شروطه وأوصافه على الفرقة التي تبحث عن النجاة فيه.
من بعض الروايات ما أخرجه الترمذي وأبو داود وابن ماجة والحاكم وأحمد بن حنبل والدارمي وابن حبان وابن أبي عاصم والسيوطي وغيرهم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تفرّقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، أو اثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمّتي على ثلاث وسبعين فرقة. وما أخرج الترمذي والحاكم وغيرهما عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله: ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل، حتى إن كان منهم مَن أتى أُمَّه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرَّقت على اثنتين وسبعين ملّة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملّة، كلهم في النار إلا ملّة واحدة. قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي. وعند الحاكم: قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي. وما أخرج أبو داود وابن ماجة وأحمد والهيثمي وابن أبي عاصم والسيوطي وابن حجر والتبريزي والألباني وغيرهم عن معاوية وغيره، قال: ألا إن رسول الله قام فينا فقال: ألا إن مَن قبلكم مِن أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملّة، وإن هذه الملّة ستفترق على ثلاث وسبعين: اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة.
إن المتتبع للروايات يلاحظ أن هذا الحديث يجعل دائماً وجه المقارنة في تفرق المسلمين واختلافهم لما حدث لليهود، وهذا مؤشر يدفعنا للشك في صحته، إذ يظهر فيه تأثير المرويات اليهودية التي حاولت أن تقارب بين الدين الذي جاء به محمد وبين الدين اليهودي، وصار هذا الحديث مرجعاً، ومن خلاله تدعي كل فرقة وطائفة من المسلمين أن الأوصاف المذكورة تنطبق عليها، وتسوق الأدلة للإثبات.
من جهة أخرى، يتعارض هذا الحديث مع النص القرآني الذي لا يقيم التفريق بين الناس على أسس طائفية، إنما على أسس سلوكية تتعدى حدود التصنيف المذهبي والعرقي، كما أن المرجع اللغوي لكلمة فرقة في القرآن لا يدل ولا في أي موضع على تصنيفات فئوية ومذهبية، بل جاءت السياقات التي ذكرت فيها كلمة فرقة مختلفة كل الاختلاف عن مفهوم حديث الفرقة الناجية، فمعنى الفرقة في القرآن يقوم على أساس عددي أو جغرافي، وليس على أسس مذهبية واعتقادية ولا حتى فكرية، وهذا يؤكد أن صنع هذا الحديث قد جاء متأخراً، أي بعد ظهور الفرق والملل في الإسلام، ولا نتصور أن يستخدم الرسول محمد معنى الفرقة أو الملة بالمفهوم الاصطلاحي المتأخر، لأن القرآن لم يستخدمه كذلك، والقاعدة الأساسية في علم اللغة ترى أن استخدام الكلمات ومدلولاتها هو نتيجة ثقافية ومعرفية تحكمها قواعد الاستخدام المرتبط بالزمان والمكان.
أما كلمة ملة في القرآن الكريم فإنها لا تدل على المعنى الاصطلاحي الذي صارت تعنيه في وقت متأخر، فهي تحمل دلالة ذات مفهوم شامل وواسع يوازي معنى كلمة الدين، ولا يقترب من مدلول الفئة بالمعنى الضيق، ومن هنا يكون حديث الفرقة الناجية إما موضوعاً أو مؤولا تأويلاً خاطئاً؛ لأن تصنيف مصائر الناس على أسس فئوية ومذهبية وطائفية يتعارض مع مفهوم القرآن لهذه الكلمات، ويتعارض مع عدالة الخالق التي حاول الإسلام تعميقها منذ البداية، فكيف نفهم قول الله تعالى "إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" فالجزاء في الآخرة لا يقوم على تصنيفات فكرية وجهوية، بل على أسس سلوكية، حتى وإن تحدث عن الإيمان، لأن الإيمان بالله واليوم الآخر في الآية هما اللذين يؤديان إلى العمل الصالح، ولذا فإن المقياس هو النتيجة المترتبة على هذا الإيمان، وعلينا بعد ذلك أن نفرق بين اختلاف الناس في الدنيا وتفرقهم إلى شعوب وقبائل وفرق وملل، ومصيرهم في الآخرة الذي لا يقيم كبير وزن لهذه التصنيفات، حسب مفهوم الإسلام لمصائر الناس وجزائهم.
يتضح أن الذين وضعوا حديث الفرقة الناجية لم يتنبهوا إلى التعارض الحاصل بين مفهومهم وبين مفهوم القرآن، فاستعملوا ألفاظه ومفرداته بمعان لا يحتملها، لأن هناك معنى اصطلاحياً ومعنى لغوياً، والمعنى الاصطلاحي له محددات زمانية ومكانية واجتماعية، فكلمة (الصلاة) مثلاً لم تكن تعني للعربي قبل الإسلام ما تعنيه لنا اليوم، لأن هذه الكلمة تحولت عن معناها اللغوي الذي هو الدعاء إلى المعنى الاصطلاحي الجديد الذي يعني ممارسة الطقس الديني على الهيئة التي نعرفها، ومن هذا الباب فإنني أشك في حقيقة حديث الفرقة الناجية، أو على الأقل أشك في المعنى الذي أول على أساسه، فالنجاة ليست حكراً على فرقة واحدة تعرف الحق، بل الناجون هم كل الناس الذين يعملون الصالحات مهما اختلفت اتجاهاتهم وفرقهم وطوائفهم.
يوسف ربابعة: كاتب وباحث ورئيس قسمي اللغة العربية والصحافة في جامعة فيلادلفيا. له مجموعة أبحاث في مجال التعليم والفكر والسياسة، ومنها: تجديد الفكر الديني، الشعر والقرآن.