من المقولات المتوارثة عند عامة الناس إن الدين جاء لتحقيق مصلحة الناس وإسعادهم في الدنيا والآخرة من خلال التمسك بالقيم والأخلاق التي يدعو لها الدين وتحقيقها في حياتهم، ويحرص الدعاة على دعوة الناس للعيش في حالة من التدين، وبرأيهم، فإنه كلما زاد التدين زادت السعادة في الحياة، وعادة ما يدخل الناس في حالات التدين طمعاً في سعادة الدنيا وجنة الآخرة بما فيها من نعيمٍ مقيمٍ، وهروباً من ضنك العيش وخوفاً من المصير البائس في الحياة الآخرة.
ولو نظرنا إلى حالات التدين وما يصاحبها من تغيرات في سلوك الإنسان الذي يتمسك بها، لوجدنا أن ما يقال عن نتائج التدين ليس دقيقاً تماماً، بل ربما يخلق التدين حالة من السلبية والشعور بالهروب من أعباء الدنيا، والتهرب من تحمل المسؤوليات، والشعور بالثقة التي تعطي صاحبه الجرأة في انتقاد الناس والحكم عليهم.
يصبح التدين حاجزاً أمام البحث عن الحقيقة والمعرفة، إذ يعتقد المتدين أن الدين يجيب عن كل الأسئلة في الحياة على اختلاف مستوياتها، حتى في الأمور العلمية وفي تفسير الظواهر والمشاكل، بمعنى آخر يتحول الدين إلى مشجب تعلق عليه كل الأخطاء من دون النظر في تصحيحها وإيجاد الحلول المناسبة لها كون ذلك حالة من الاستسلام لأمر الله، وعدم السؤال هو نوع من الأدب مع الخالق سبحانه.
وقد قال أهل العقائد قديماً، عندما سئلوا عن كيفية استواء الخالق على العرش: "الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة"، فأي تساؤل عن الخلق والمصير والأهداف لا ينسجم مع أخلاق المتدين، لذا فالمتدين هو شخص مستسلم لكل الظواهر المحيطة به، لا يكلف عقله عناء التفكير والتأمل، أي أنه بليد لا يهتم لتفسير وتحليل ما يحيط به، فتصبح أفعاله كلها محكومة لمقولات جامدة، نابعة من الأوامر والنواهي من دون البحث في أهدافها ونتائجها، أو ربطها بما يحيط بها والظروف التي تقف أمامها، فما دام الله هو من يأمر فإن النتائج ليست مهمة كثيراً.
وهناك مقولات يبثها بعض الدعاة في الفضائيات، تقول: "إن الإنسان يحاسب على عمله، ولا يحاسب على النتيجة، لأنها من صنع الله وليست من صنع البشر"، والمتدين يقوم بعمله دون حساب النتائج، وإذا فشل فيه فإنه يعزو ذلك إلى عدم توفيق الله، ولا يعزوه إلى الخطأ الذي ارتكبه، فهو لا يؤمن بالأسباب والنتائج، ولا بقانون السبب والسببية، لأن الله يفعل ما يريد.
إن خطورة التدين، اليوم، تكمن في تحويل الإنسان إلى جاهل وبليد وعاجز وغير قادر على التفكير، وفي المقابل واثق من نفسه جريء في أفعاله قوي في تنفيذها، لأنه يعتقد أنها من أمر الله، فيصبح كل فعل مبرراً بأمر إلهي، حتى القتل يصبح نوعاً من التقرب إلى الله.
ثم يصيب المتدين شعورٌ بأنه وصي على الناس وأفعالهم، وأن رسالته الأهم في الدنيا هي إدخال الناس في الدين، حتى لو رغماً عنهم، بحجة أنه يريد لهم الخير، ويبعد عنهم الشر، وهو يريد أن يخرجهم من حزب الشيطان، ويدخلهم في حزب الله، ويريد أن يخرجهم من النار ويدخلهم في الجنة.
وبرر أحدهم يوما تفجير السفارات التي قُتل فيها بعض المسلمين بقوله: "إنهم يبعثون على نياتهم، فمن كانت نيته سليمة دخل الجنة ومن كانت نيته سيئة دخل النار"، وهذه الوصاية على الناس بهذه الجرأة ناتجة عن الشعور بامتلاك الحق الإلهي الذي وكلهم به في الدنيا، وأن لهم الحق في تقرير مصائر الناس، لأنهم وحدهم من يمتلك الحقيقة المطلقة من الله.
يبدو التدين اليوم حالة من الوهم يعيشها الفرد مغلقاً عينيه وعقله، رافضاً لكل ما يدور حوله، بوصفه مخالفاً لأمر الله، لذا يعيش المتدين حالة من العزلة عن الواقع، غير متصالح معه، وربما ناقماً وحاقداً عليه، بوصفه كافراً وملحداً، فالمجتمع عدو قريب تجب محاربته وتغييره وقتله، ويدخل في صراع معه فيصبح القتل علاجاً وحيداً، لأنه لا يملك أي طريقة أخرى لإصلاح المجتمع، فالنظريات الاجتماعية والعلوم الإنسانية والفرضيات المجتمعية لا تتوافق مع التفكير الديني المبني على أسس الأوامر والنواهي التي جاء يها النص فقط، وما عداها هو نوع من الكفر تجب مقاومته أيضاً.
من هنا يصبح المتدين عبئاً على مجتمعه، ومصدراً للتخريب ونشر العداوة والكراهية والقتل، بدل أن يكون التدين حالة وعي إنساني، يقوم على التأمل والتفكر والبحث والتحليل وربط الأسباب بالنتائج.