حين يتحوّل الطالب إلى آلة تسجيل

حين يتحوّل الطالب إلى آلة تسجيل

لا أعرف من الذي زيّن للمدارس الحكومية والخاصة التنافس في زيادة عدد الحصص وتمديد وقت الدوام، فقد صار من فضائل التعليم أن يدخل الطالب المدرسة في السابعة والنصف صباحاً ويخرج منها في الثالثة مساء، وخلال هذه المدة عليه أن يحضر ثماني حصص في مواد مختلفة، مع استراحة لا تتجاوز نصف الساعة.

كما أن المدارس تحاول التقليل من حصص الرياضة والفن لصالح اللغات والرياضيات والعلوم، ظناً منها أن ذلك يزيد من قدرات الطلاب التحصيلية، وينمّي قدراتهم في الفهم والإدراك، ثم يعود الطالب لبيته محمّلاً بحزمة من الواجبات لكل المواد التي درسها.

هكذا يبدو حال طلابنا هذه الأيام مع الأسلوب الذي تتبعه المدارس في تعليمهم؛ ثمان ساعات يقضيها الطالب في المدرسة متنقلاً بين مواد قد تصل إلى ست في اليوم الواحد، أي أن الطالب قد يدرس اللغة العربية واللغة الإنجليزية والرياضيات والعلوم والاجتماعيات والتربية الإسلامية في يوم واحد، وكل حصة تستغرق خمساً وأربعين دقيقة، يعود منهكا بعدها ولا يستطيع أن يستمتع بطعامه ولا بشرابه ولا بوقته، ويزداد إنهاكاً في البيت، إذ عليه أن يقضي أربعاً إلى خمس ساعات في حل الواجبات لينام مشغول البال خاوي الجسد، ويصحو في اليوم التالي لبيدأ رحلة العذاب من جديد.

إنها بالفعل رحلة عذاب، فرضتها علينا موضات من التعليم الشكلي الذي حول الطالب إلى آلة تسجيل، ننسخ عليها ما نريد، ثم يتم استفراغها على ورقة الواجب أو ورقة الامتحان، وبعد بضعة أيام يمحوها ليسجل معلومات جديدة، ليتسنى له استفراغها مرة أخرى، وما بين التسجيل والاستفراغ تفتخر المدارس أمام أولياء الأمور أن أبناءهم يتلقون تعليماً جيداً، وعندما يسألون: كيف ذلك؟ يُقال لهم: نعطيهم ثماني حصص في اليوم، ونشغلهم بواجبات بيتيه بقية يومهم. إننا نطحنهم في المدرسة ونحشو عقولهم حشواً لا رحمة فيه، ويعودون إلى بيوتهم فتطحنهم الواجبات مرة أخرى.

لقد كان عند المعلمين نظرية تقول: إذا لم تُشغلِه أشغلك، لذلك أتذكر أن بعض الأساتذة الذين درسونا في الصفوف المتوسطة، كانوا يطلبون منا في بعض الحصص أن ننسخ الدرس ثلاث مرات، حتى في حصص العلوم، وعندما كبرت وأصبحت معلماً، اكتشفت أنها طريقة جيدة، حين لا يكون عندي ما أقدمه للطلاب فأشغلهم بالنسخ حتى لا يشغلوني بمشاغبتهم، إنها أفضل طريقة لتتخلّص من شيطنة هؤلاء المشاغبين، وتضييع وقتك ووقتهم، فليس لهذا النسخ أي هدف سوى ذلك، لكن لا يمكن أن أخفي تبريراتي أنها مفيدة ليحسّنوا خطوطهم ويتعلموا الإملاء، وهكذا يخدع المعلم نفسه ويخدع طلابه.

إنني أتساءل بالفعل عن جدوى ما نفرضه على طلابنا في كل هذه الحصص، ومن أين جاءت فكرة حشو عقولهم وإرهاقهم طيلة مدة دراستهم بواجبات وامتحانات تجعلهم غير قادرين على التفكير أو التأمل أو ممارسة متعهم الخاصة في اللعب والفن والرياضة والموسيقى والرقص؟

أحيانا ًأعتقد أن هناك تواطؤاً بين المدرسة والأهل في تحويل هؤلاء الطلاب إلى آلات تسجيل ونسخ، فالمدرسة غير مؤهلة لاستيعاب أنشطة تقدمها لهم، والأهل ليس عندهم الوقت للجلوس مع أبنائهم وممارسة أنشطة جماعية، كما أنني أعتقد أن الدوام الطويل قد فرضته طبيعة عمل الأب والأم اللذين يعملان بوظائف تنتهي في وقت متأخر، ويريدون أن يتناسب دوام أبنائهم مع دوامهم.

ويبدو لي أن هذا الكم الهائل من الحصص والواجبات غير مبني على أسس تربوية وتعليمية، إذ إننا نقرأ أن فنلندا مثلا أصبحت من أوائل دول العالم في التعليم، وأن من أهم الأسس التي وضعتها هي التركيز في سياسة التعليم بشكل أساسي على العمق في المضمون المدروس، بدلا من زيادة المضمون والتعامل معه بسطحية، والمعلمون يعملون في الفصول لمدة أربع ساعات يومياً وعشرين ساعة أسبوعياً، نصف هذه الساعات يقوم فيها المدرس بإعداد المناهج الدراسية وتقييم الطلاب، ومع تقلص ساعات الدراسة تزداد فترات الراحة نسبياً لتصل خمسا وسبعين دقيقة موزعة على اليوم الدراسي.

لا أعرف إذا كان لدى وزارة التربية والتعليم دراسات عن فوائد زيادة الحصص وتراكم الواجبات على كواهل الطلاب، والحكم عليهم للعيش في دوامة الإرهاق وإشغال عقولهم بذلك، وعدم إعطائهم أي فرصة للتفكير والتأمل فيما حولهم، في الكون والحياة والعالم والجسد والمتعة والرغبة! إنني لا أستطيع أن أفهم هذا النوع من التعليم إلا أنه نوع من التدجين الذي تمارسه المدارس على الطلاب ليكونوا "برغياً" في هذا المصنع الذي ينتج أدوات طيعة للاستخدام دون أن يكون لديهم القدرة على النقد والرفض والتمرد!

يوسف ربابعة: كاتب وباحث وأستاذ جامعي. له مجموعة أبحاث في مجال التعليم والفكر والسياسة، ومنها: تجديد الفكر الديني، الشعر والقرآن.

أضف تعليقك