حول أزمة الحراك في الأردن ...

حول أزمة الحراك في الأردن ...
الرابط المختصر

لا شك أن السمة الرئيسية للمرحلة الحالية من تاريخنا العربي تتمثل بشكل أساسي فيما يسمى بالربيع العربي أو الحراك الشعبي العربي الذي غير بشكل واضح معالم العلاقة بين الحاكم والمحكوم في أقطارنا من جهة وأدى إلى تغيير رأس النظام في أكثر من قطر عربي من جهة أخرى ، وبعيداً عن تحديد موقف من عفوية الحراك من عدمها أو اختراقه أو الحديث عن الالتفاف عليه من القوى الساعية للهيمنة على مصير أمتنا بالكامل وعلى رأسها المشروع الصهيوني الأمريكي ومن لف لفه، وبعيداً عن تقييم التجربة في الأقطار العربية التي حقق فيها الحراك الشعبي تغييراً دراماتيكياً في رأس النظام أو بنيته ، لا بد من التأكيد على أن ما شهدته تونس فمصر بالدرجة الأولى من حراك (غير مسبوق) قد خلق حالة من التغيير في بنية المفاهيم الشعبية تجاه التغيير وسبله لدى الغالبية العظمى من الشباب العربي بحيث انتاب الجميع – تقريباً – شعور بالقدرة على التغيير الجذري وبأبسط السبل المتاحة خاصة وان القراءات السياسية والاجتماعية التي تناولت أسباب وتداعيات ما حصل بل وسيناريوهات نتائجه المفترضة قد تنوعت، و إن بات المعظم يقرأ النتائج بالشكل الذي يتمنى أن تكون عليه لا بالشكل الذي هي عليه أو ستكون.

وفي ظل الفشل الواضح للأنظمة العربية في خلق مشروع دولة وطنية حقيقية - ناهيك عن مشروع قومي عربي – وفي ظل الواقع المعاش للفرد في أقطارنا العربية والذي يتسم بالجوع والفقر من جهة وبمعاناته من القهر والاضطهاد الناجمة عن الفساد وغياب العدالة وتكريس الدولة الأمنية من جهة أخرى، تحول الشعور بالقدرة على التغيير المتأتي من تجارب المحيط إلى شعور بضرورة البدء بالتغيير وخوض تجربة التحرك للوصول له.

في الأردن، ينطبق التحليل السابق على الصورة العامة للحالة في البلاد بحيث بدأ الشعور بضرورة التغيير يأخذ شكله الملح وبدأ الحراك الشعبي يتسع ويتطور أملاً في التغيير ، ما أنتج عدة مستويات للحراك و باتجاهات وأهداف متعددة ؛ بحيث ظهرت بشكل واضح اطر متباينة تنادي بمطالب مختلفة .

ففي حين ظهرت أطر تجمع أولئك المطالبين بقضايا مطلبيه بحتة تهم الشرائح التي تمثلها والتي ترتبط عادة في ذات الهم أو الوظيفة أو الواقع المعاش – والتي حققت بعض المكاسب القطاعية - ، ظهرت أطر أخرى تحمل عبء المطلب السياسي بشكل صريح شكلت بعض الأحزاب - ومعظمها أحياناً – بالتشارك مع مجموعات مستقلة -حزبياً- المحرك الأساسي لها، والتي عانت من اقتصارها على النخبة وجمهورهم الملاصق من جهة ومن جهة أخرى عانت تبايناً حول أولويات المطالب التي سيتبناها الحراك لجهة تحديد التناقض الرئيسي من بين مطالب عدة كان أهمها حمل الهم المطلبي المعاش وتحقيقه وصولاً للمطلب السياسي والوطني أو تبني الهم الوطني القومي والصراع مع العدو الصهيوني كأولوية، وفي الأثناء برزت جملة من الأطر التي تتطلب قراءتها مزيداً من التأني خاصة وان بعضها يحمل طابعاً إقليمياً إلى حد ما ، بينما تبنى بعضها الآخر خطابا عشائرياً أو جغرافيا ، ما أتاح الفرصة لدخول قوى غريبة عن واقع الحراك السياسي التقليدي في الشارع الأردني ، فظهرت سريعاً الأطر الممثلة لبعض المتنفذين أو المرتبطة بهم والتي كان حراكها - المحق في الظاهر – يعبر عن حالة من التصارع على مصالح ذاتية أو جهوية بين بعض مراكز القوى في بنية الدولة ، أو عن حالة من تصفية الحسابات الشخصية من خلال استغلال الظرف الحالي -للأردن بشكل خاص وللمحيط العربي بشكل عام- ، كما وظهرت أطر أخرى - معظمها شبابي الطابع – لا تستند في حراكها إلى أية مرجعية فكرية أو ايدولوجية وإنما متأثرة بنشوة ما اعتبرته انتصاراً للشعب وإرادته في تونس فمصر بالدرجة الأولى .

وبقدر ما أظهرت معظم هذه الأطر الشبابية إخلاصاً في العمل وزهداً في تحقيق مكاسب شخصية اعترضت مسارها جملة من المفاصل الخطيرة التي لا بد من التوقف عندها والتي كان أبرزها انصياعها أحياناً لإملاءات وتوجهات جهات أخرى سخرت بعض إمكانياتها لخدمة هذه الأطر خدمة في الواقع لمصالحها الذاتية ، واعتمادها - بشكل رئيسي - وسائل التكنولوجيا الحديثة وأدوات التواصل الاجتماعي – التقني – معتقدة أنها كافية ما أوقعها في مطب سوء تقدير زخم التحرك هنا أو هناك وتسهيل مهمة المنتقدين والعابثين من جهة وهواة الكاميرات والظهور الإعلامي من جهة أخرى إضافة إلى وقوعها في مطب توافقات ما يسمى (بالحد الأدنى) و هو ما يتعارض مع أسباب ظهورها أصلا وهو تاريخية الظرف وخصوصية المرحلة التي تقتضي وضع رؤية إستراتيجية للتغيير تشمل كل الجوانب والمفاصل، كما ظهر انتهاجها مبدأ التنافس الذي أفضى بدوره إلى الانسياق وراء نهج التخوين وعدم تقبل الآخر ، وبشكل عام ظلت السمة الأبرز في هذا النوع من التجمعات أو الأطر غياب الإستراتيجية والبرنامج الوطني الواضح وإصرارها على إسقاط التجربة في مصر وتونس بكل تفاصيلها دون مراعاة لمحاذير التقليد الأعمى ولخصوصية مجتمعنا ومحركاته السياسية والاجتماعية ما قلل من قدرتها على مواجهة المعسكر المعاكس المتمثل في (مقاومي الإصلاح والتغيير) وأحبط مشروع العمل مع الشركاء المفترضين الذين وجدوا أنفسهم في المعسكر الآخر بحكم ممارسات (متبادلة) اتسمت بالتهجم والتخوين إضافة إلى الجهات المعنية في الدولة والتي تمتلك أدوات أكثر حسماً - وعلى رأسها المنابر الإعلامية المتنوعة – والتي ساهمت بشكل واضح في خلق رأي عام – لا يستهان به – رافض لما يطرح في باب الإصلاح والتغيير من خلال التقييم المسبق للأطر المطالبة بالتغيير –على تنوعها- و وضع كل منها في قالب منفّر – اجتماعياً - يحد بشكل واضح من قدرته على التحشيد واكتساب الشرعية الشعبية المناسبة لخلق حالة من التغيير، يضاف إلى كل هذا ما مورس ويمارس من تضييق أمني شديد على النشطاء بشكل عام وحجم القمع والبطش الذي جوبهت به بعض الفعاليات المطلبية من قبل الأجهزة الأمنية .

كما لا بد من التذكير بأن سلبيات سوء التنسيق بين الأطر القائمة حيناً وغيابه أحياناً أخرى كان لها دور بارز في تحجيم الأثر المرجو من الحراك بمجموع مكوناته.

وبشكل عام ظل الحراك موزعاً بين مخلص لا حول له ومتنفع أو مخترق يحقق مكاسب ويصفي حسابات هنا وهناك وصاحب أجندة ترتبط بعضها – ربما- بما وراء الحدود بحيث تتساوق بعض الأطر مع مشاريع كبرى بما فيها تلك التي تسعى إلى تغيير شكل المنطقة بأسرها – في ضوء حديث يتردد عن علاقات بسفارات أجنبية.

وفي غياب أي نية رسمية نحو تحقيق تغيير حقيقي في سياسات الحكومات المتعاقبة ظل مشهد الحراك الأردني الشعبي يراوح مكانه ، فلا هو حقق المراد منه ولا هو توقف – رغم تراجعه الملحوظ – خاصة وأن بعض التحليلات تعتقد بوجود رغبة رسمية للإبقاء على استمرارية الحراك – ولكن دون السماح بتطوره – بالنظر لما تقدمه للأردن دول الخليج وبعض الدول (الصديقة) المعنية بعدم التغيير لدينا- من (منح) والتي تذهب التحليلات إلى اعتبارها مصدراً من مصادر الاستكساب لدى بعض المتنفذين باعتبار أن بعضها – على الأقل – يذهب إلى جيوب البعض بدل الاستفادة منه في إنعاش الواقع الاقتصادي المنهار للبلاد.

في الوضع الطبيعي كانت الحلول المنطقية للواقع العام المتردي في البلاد – سياسياً واقتصادياً واجتماعياً – تتطلب توافر شروط ثلاثة هي الإرادة الرسمية والمشروع الوطني الشامل المتكامل والاستعداد الشعبي ، أما اليوم وبعد أن تشوهت بنية الواقع العام في البلاد بشقيه -الرسمي والشعبي- وبعد الإصرار على الالتفاف على المطالب الشعبية المحقة من قبل الحكومات ، وبعد ما تركته ملامح المرحلة من تشويه في الوعي الجمعي مما أوشك على تكريس شق عامودي في بنية المجتمع الأردني ينذر بنتائج خطيرة ، صار لا بد من وقفة أكثر جدية وإخلاصاً لبحث السبل الأمثل للخروج من الواقع الحالي دون القبول بالالتفاف على مطالب الشعب وحقوقه ولا الذهاب بالبلاد إلى المجهول ، كيف لا والأردن لا تُقرأ مفاصل تاريخه ولا طموحات مستقبله دون الأخذ بعين الاعتبار واقعه الجغرافي الملاصق للعدو الصهيوني -الذي يحتل فلسطين العربية ويجاهر بمطامعه في الأردن- أو لتحالفاته الدولية التي تضعه في الفلك الأمريكي تابعاً ،لا تتوقف المطامع فيه عند حدود مصادرة موقفه السياسي والاقتصادي.

من هنا ومن الإيمان بأن التغيير الذي يضمن الحفاظ على وحدة الوطن لا ينبغي أن يأخذ شكلاً دراماتيكياً قد يعصف بنسيجه الوطني والجغرافي صار لابد من انتهاج آليات أخرى للحراك تعتمد العمل المخلص والمشترك وفق خطوات مدروسة وبناء وعي جمعي وطني صلب ومحصن بعيداً عن المحاصصات والنظرة الذاتية الساعية لتحقيق المصالح الخاصة – شخصية كانت أم حزبية أم فئوية - ،وصياغة مشروع وطني جاد تلتف حوله كل فئات الشعب يخرج البلاد من واقع التبعية ويحفظها من تمرير مشروع جعل الأردن جغرافيا لحل أزمات المشروع الإمبريالي الصهيوني في المنطقة ،وهو ما من شأنه أن ينتج مشروعاً وطنياً تحمله قواه الحية وشعبه المخلص الذي بنى – بإمكانياته المتواضعة وتلاحم أبنائه - وطناً يستحق التضحية.

أضف تعليقك