حفلة موسيقيّة من أجل بعوضة
لعلّ الصراع التاريخيّ بين المثقّف والسياسيّ، على امتلاك الوعي الفرديّ، هو الذي أنتج فكرة الرعاية الرسميّة للحدث الثقافيّ، والتي تشكّل نوعاً من المخاتلة السياسيّة لاحتواء الاتجاهات الثقافيّة أيٍّ كان مسارها، ولإخضاع الثقافيّ الذي يشكّل بين الفينة والأخرى، مؤرّقاً من مؤرّقات السلطة.
تشكّل رعاية السلطة للثقافة تجلّياً من تجلّيات براغماتيّتها، إذ تتوخّى بذلك المظهر الاحتفاليّ بالثقافة مكاسب عديدة، من مثل تسييس الأخيرة، أو الظهور بمظهر ديمقراطيّ، يحضر فيه الآخر بمقدار حضور الذات، فيشير إشارة دامغة إلى الشراكة في بناء المجتمع، أو لتأمن السلطة قلاقل الشباب، والثوريّين، والمعارضين، والرأي العام..
قدِمت فكرة الرعاية هذه مع الأنظمة الاشتراكية التي آمنت بفكرة الأب القائد، والتي تحوّلت بالممارسة إلى أنظمة واحديّة، تنتفي فيها الديمقراطيّة، ويصير فيها الرأي الآخر سبباً وجيهاً للموت، فالثقافيّ والسياسي يسيران في اتجاه واحد، مثلما تكون الإمامة والسياسة في أنطمة أخرى تحت العمّة ذاتها، إلاّ أنّ هذه الفكرة الخبيثة استهوت أعتى النظم الديمقراطيّة، ذلك أنّ الساسة عموماً لا يستطيعون تصوّر مخلوق بشريّ غيرهم، قادر على امتلاك فكرته، وقولبتها في إطار ما، والدفاع عنها، وإنّ ضمَّ المثقّف تحت الجناح الرعائيّ، أجلُّ بكثير من قتله بطرق أخرى!
ما يزيد المشهد فداحة هو انتفاء إيمان الراعي بما يرعاه، وجهله تمام الجهل، وانقطاع العلاقة بينهما، وقد تمكّن الفنّ من تصوير هذه الجزئيّة الفظيعة تحديداً، بل فعل ذلك بمنتهى السخرية الناقدة لكلّ من المثقّف والسياسيّ على حدّ سواء، ففي عام 1986 قدّم التشكيليّ الروسيّ "إيليّا كاباكوف" مشهده التشكيليّ الموسوم بعنوان "حفلة موسيقيّة من أجل بعوضة"، ويعدّ كاباكوف من أهمّ الأسماء العالميّة ما بعد الحداثيّة، وقد عمل مع زوجته الموسيقيّة إمليا كاباكوفا على صنع مشاهد تشكيليّة استخدما فيها فضاءات واسعة، ليعدّا ما يشبه لوحة مسرحيّة.
عاش كاباكوف المرحلة السوفيتيّة، ومثّلها في فنّه، وجعلها منطلقاً لثيماته المفهوميّة، بوصفها أيقونة لانكسار الحلم، وهزيمة اليوتوبيا، ولعلّه الأبرع حقّاً في تجسيد المفاهيم، ومن معارضه الشهيرة: "ذاكرة جماعيّة"، و"التاريخ الآخر للفنّ"
في مشهده التشكيليّ "حفلة موسيقيّة من أجل بعوضة"، نجد مجموعة من الكراسي التي تخصّ موسيقيي إحدى الفرق الأوركستراليّة، وقد اصطفّت استعداداً لحفلة، وأمام كلّ كرسيّ يوجد حامل النوتة المعدنيّ، وعليه لوحة صغيرة أشبه برسمة طفل، وبعض الرموز الموسيقيّة. لا يوجد مايسترو لهذه الفرقة، لكن ثمّة بعوضة تتدلّى من السقف، وتشرف على الحدث، وتمثّل الكائن الحيّ الوحيد في المشهد. لقد اجتهد الموسيقيّون في صناعة موسيقاهم من أجل هذه البعوضة التي تأتي من فوق، لتعلو منصّتهم.
نال هذا المشهد التشكيليّ تأويلات عديدة، رأى بعضها أنّ البعوضة هي المايسترو ذاته، ورأى بعضها الآخر أنّ الأعمال الفنيّة تتكاثر مثل البعوض، وذهب تأويل ثالث إلى أنّ الفنّ يصنع حياته الخاصّة بعيداً عن صخب العالم، مثلما يصنع أيّ كائن ضئيل حياته على حدة.. ولاشكّ في أنّ منْ تابع تاريخ الصراع بين المثقّف والسياسيّ، وعرَف الجدران العازلة التي تحتضن الثقافة، لتحاصرها، أو تخنقها، سيستحضر المفارقة المتأتية من فكرة رعاية المنافس، أو الندّ، أو العدوّ، فالجميع يتأهّب، الموسيقيّون، والنوتات، والحضور الذي يشكّله جمهور المتفرّجين على المشهد، والذين ينتمون إلى أزمنة عدّة تبدأ بزمن العرض.. إنّ الثقافة بجلالها تنتظر بعوضة لتسمح لها بطرح تجلّياتها، ولتثني على إبداعها، تلك هي السخرية المُرّة من كلّ من المثقّف والسياسيّ على حدّ سواء، والفنّ وحده قادرعلى اقترافها، وما كان ليفعل لولا الخوف، الذي يقول عنه كاباكوف نفسه إنّه سبب للإبداع، ووسيلة للتحرّر.
- د. شهلا العجيلي: روائيّة، وأكاديميّة، أستاذة الأدب العربيّ الحديث في الجامعة الأميركيّة في مادبا. لها في الرواية "عين الهرّ" الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية 2009، و"سجّاد عجميّ".