حصانة في المكان الخاطئ

حصانة في المكان الخاطئ
الرابط المختصر

ثمة اعتقاد خاطئ في مجتمعاتنا بأنه يجب أن تتوفر حصانة للشخصية العامة تعفيها من الانتقاد، الذي يعد خروجاً عن المقبول إذا ما توّجه لمسؤول أو هيئة رسمية، بل إهانة للدولة ورموزها، رغم أن العرْف في كل المجتمعات يقضي بأن تتقبل الشخصية العامة -مهما كان موقعها- النقد، وحتى الإساءة، ما دام موجهاً إلى الموقع لا إلى الشخص بعينه.

ويتبنى القاضي العادل، وفق القوانين، موقفاً قوياً تجاه النقد الموجه لمواطنين أفراد، لكن لا يوفر عادةً الحماية نفسها للشخصيات العامة.

أتطرق لهذا الأمر تعقيباً على استدعاء مدعي عام عمان الزميلة جمانة غنيمات، رئيسة تحرير صحيفة الغد، بسبب نشرها مقال رأي يحمل عنوان "لقد مللنا العرض.. فأوقفوه" تناولت فيه أداء مجلس النواب، وجاء فيه أن "نواباً من أصحاب الصوت العالي؛ يزاودون على الكل، ويزعمون السعي في محاربة الفساد ومحاصرته، فيما هم غارقون فيه حتى آذانهم!".

وجرى توجيه ثلاث تهم للزميلة غنيمات، وهي: عدم تحرّي الحقيقة خلافاً لأحكام المادة 5 من قانون المطبوعات، وعدم الموضوعية والتوازن خلافاً لأحكام المادة 7/ ج من قانون المطبوعات، إضافة إلى تهمة ذمّ هيئة رسمية استناداً لأحكام المادة 191 من قانون العقوبات.

ردّت الزميلة على تهمة عدم تحري الحقيقة وعدم الموضوعية بالقول إن المقال المذكور هو مقال رأي وليس تقريراً صحفياً، لكنها لم تعلّق على تهمة "ذم هيئة رسمية"، وهي تهمة مبنية كما أسلفت على فهم مغلوط مفاده أن النائب والمؤسسات الرسمية لها حصانة خاصة تحميها من النقد والمحاسبة.

ذم هيئة رسمية تهمة تحاسب عليها القوانين الأردنية، وهي تشبه قوانين مماثلة لدى عدد من الدول الشمولية، إلا أن الإصلاح لا يتأسس من دون تغيير البنية القانونية وحتى الشعبية، بما يطال تعديل هذه القوانين غير الديمقراطية، التي تجرّم المواطن بسبب مطالبته أو انتقاده الجهات، التي يفترض أنها تمثّل المجتمع والمواطن، وتوفر لهما الحماية (وفي هذه الحالة الحماية للصحفي) إذا ما قام المواطن بواجبه القانوني وانتقد الهيئات الحاكمة ورموزها.

لقد أقام العديد من النشطاء في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية حملات مجتمع مدني للمطالبة بإلغاء تلك القوانين، التي تجرم انتقاد وحتى ذم تلك المؤسسات، مهما كان ذلك الرأي جارحاً ومستفزاً ما دامت غاية النقد هي الإصلاح، ويتوجه أساساً للمؤسسة لا للمسؤول بصفته الشخصية.

لا شك أننا بعيدون عن مثل هذا التعديل لهذه القوانين البائسة، التي تحكم مجرى النقاش العام، فمقال لرئيس تحرير ينتج عنه شكوى من مجهول، ما يضطره المثول أمام المدعٍي عام، قد لا يعرف الفرق بين مقال الرأي والتقرير الصحفي، وعلاوة على ذلك كله يفتقر النشر والتعليق في وسائل الإعلام لأي ضمانة تحمي الصحفي والصحفي المواطن وحتى المواطن العادي رغم أننا نكرر صبح مساء أننا في بلد يعتبر أن حرية التعبير سقفها السماء.

الخطوة الأولى في مشوار المئة ميل تبدأ بنقل الحصانة المزيفة المتوفرة للمسؤولين والمتنفذين إلى المواطن العادي إذا كان فعلاً المواطن أغلى ما نملك!

·         داود كتّاب: مدير عام شبكة الإعلام المجتمعي. أسس العديد من المحطات التلفزيونية والإذاعية في فلسطين والأردن والعالم العربي.

أضف تعليقك